مقالات متنوعة

د. مصطفى عثمان اسماعيل : في رحاب ذكرى رحيل الشهيد المشير الزبير محمد صالح


الحلقة السادسة

مواقف ومشاهد (2)

في الأيام الاخيرة قبل استشهاده كانت الترتيبات تجري لعقد المؤتمر العام التأسيسي لتأسيس التنظيم السياسي الذي انبثق منه المؤتمر الوطني ، كان الراحل الزبير يرأس اللجنة العليا للمؤتمر وكنت مسئولا عن الداعوت الخارجية ، في هذا الاثناء تقرر ان يقوم سيادته بزيارة لجمهورية ايران الاسلامية وكنت بحكم عملي وزير دولة برئاسة الجمهورية او وزير دولة بوزارة الخارجية تقع علي مهمة الترتيب لزياراته الخارجية ومرافقته ، في طريق العودة من ايران مرت الطائرة كما هو مخطط فوق الاجواء السعودية ولما اقتربنا من المدينة المنورة اعلن كابتن الطائرة ذلك ، فنادى الراحل لمندوب المراسم وطلب منه ان امكن ان تزل الطائرة في مطار المدينة المنورة لكي يزور المسجد النبوي ويسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ارتبك مندوب المراسم ماذا يفعل والسلطات السعودية لم تخطر مسبقا والراحل ليس ضيفا عاديا بل هو النائب الاول لرئيس الجمهورية وما يتطلبه ذلك من اذن واستقبال وبروتوكول ، جاءني مندوب المراسم يستنجد بي في ان اثني الراحل عن هذه الفكرة . تحدثت معه بصعوبة الامر واننا يمكن ان نرتب له زيارة بعد العودة الى السودان .كانت حجته ببساطة انه لايريد لا بروتوكول ولا استقبال فقط يريد ان يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اقنعته في نهاية الامر باستحالة ذلك والافضل ان يتم ذلك بعد العودة للسودان . عدنا الى السودان سافر الراحل لأداء العمرة وبعد عودته كانت الترتيبات قد قطعت شوطا بعيدا لعقد المؤتمر التأسيسي ، في هذا التوقيت قرر ان يقوم بزيارته الاخيرة للجنوب وكنت ضمن الوفد المرافق له ، طلب مني الاخوة في القيادة امكانية تأجيل رحلة النائب الاول للجنوب الى مابعد المؤتمر حتى يعكف هو على متابعة اعمال اللجنة العليا واتابع الدعوات الخارجية . ذهبت اليه في المنزل ونقلت له رغبة الاخوة في التأجيل غير اني وجدته قد تهيأ تماما للزيارة وعندما اكثرت له من الحجج باغتني بمقترح شبيه بالقرار وهو ان اتخلف انا واتابع تحضيرات المؤتمر ويسافر هو ووفده الى الجنوب وعلى ذلك افترقنا ، قبل الموعد المحدد لسفر الراحل الى الجنوب بيوم او يومين مررت على صديقي الاستاذ علي محمد عثمان ياسين وزير العدل الاسبق وكان وقتها وزير الدولة بوزارة الحكم الاتحادي التي كان على رأسها في ذلك الوقت الدكتور على الحاج محمد رد الله غربته ، وجدت الاستاذ علي محمد عثمان ياسين على غير عادته مهموما ، فبادرته مابك رد علي بان زوجته على الوضوع وهو يشتكي من ارتفاع السكر وهو ضمن الوفد المسافر مع النائب الاول للجنوب .قلت له لماذا لا تعتذر .قال : لا . لا اريد ان اعتذر واجد في ذلك حرجا شديدا . أدرت قرص الهاتف فرد علي من الطرف الاخر النائب الاول مباشرة ، حكيت له وضع الاخ علي ياسين واقترحت عليه ان يعفيه من هذه الرحلة للظروف التي يمر بها ، قال لي الراحل انت لا داير تمشي لا تخلي الناس يمشوا ؟ مازحته قائلا ( يا سعادتك انت على يسن بشبه الجنوب ماتسوق الناس البيشبهوا الجنوب) قال لي زي منو؟ قلت له زي الطيب ابراهيم وموسى المك كور وكثيرين امثالهم ، خلاص عفينا على يسن من الرحلة دية وودعتك الله ابقى عشرة على المؤتمر ، ما كنت اعلم ان هذه ستكون آخر الكلمات بيني وبينه ، نجا على يسن من تلك الرحلة ودائما ما اقول له لقد كنت سببا في انقاذك من موت محقق ، فأنت لاتعرف العوم فإن نجوت من الطائرة كانت ستتخطفك التماسيح في نهر السوباط.

نهار يوم 12 فبراير كان يوما ثقيلا ً علي فبحكم عملي وزير دولة بالخارجية والاستاذ على عثمان وزير الخارجية حيث كان دائما مشغولا بقضايا اخرى سياسية وأمنية كنت مسئولا عن معظم العمل الاداري والمالي في الخارجية ، حوالي منتصف النهار رن جرس الهاتف وابلغوني بأني مطلوب فورا لدى الاخ الرئيس بمكتبه بالقصر الجمهوري قلت اكمل بعض الاعمال بسرعة فاذا بهاتف ثاني يستعجلني في الحضور لمكتب السيد الرئيس تحركت على الفور ولم يدر بخلدي ابدا ان النبأ هو ما سيبلغني به الأخ الرئيس ، وجدت الناس وجوماً حول الاخ الرئيس فتوجست فبادرني الاخ الرئيس بالخبر حاول ان يخفف علي وقعه لكني كنت قد فقدت وعيي وحملت الى غرفة مجاورة في احد مكاتب القصر ، بعد مدة عاد الى وعيي فاسترجعت الله وارسلت دموعي وعبراتي ثم غسلت وجهي وتوضأت وصليت واستغفرت الله ..ودعوت للراحل بالرحمة وللسودان بالحفظ والصون ثم بدأنا في الترتيب لاستقبال الجثمان وترتيبات العزاء .

رحم الله الشهيد الزبير محمد صالح رحمة واسعة واسكنه علياء الجنان فقد كان اخا كريما سمحا رقيقا في محل الرقة قويا في محل القوة ، من لايعرفه يهابه لكنك عندما تقترب منه تجد نفسك امام رجلا حنونا، ودودا ، عطوفا، كلماته عفوية تدخل القلب بلا اسئذان ، سأحاول في هذا المقال والمقالات القادمة أن اتعرض لبعض من هذه المواقف والمشاهد التي كنت شاهدا عليها والتي تعكس بعضا من صفاته وسأبدأ بزيارتين من زياراته العديدة لليبيا حيث كانت تربطه بالقيادة الليبية في عهد العقيد معمر القذافي وخاصة باللواء ابو بكر يونس جابر وزير الدفاع والمشرف على شئون السودان علاقة وثيقة ، الزيارة الاولى كانت تلبية لدعوة من العقيد القذافي للرئيس البشير للمشاركة في احتفالات الفاتح من سبتمبر وكان العقيد القذافي يرغب بشدة في مشاركة الرئيس البشير شخصيا الا انه اعتذر وكلف نائبه الاول الراحل الزبير لينوب عنه ، وصلنا الى ليبيا ( الجماهيرية في ذلك الوقت ) ثم ذهبنا لمنصة الاحتفال حيث يجلس العقيد القذافي وسط ضيوفه سلم عليه الراحل فرد العقيد التحية قائلا ( مرحبا يا زبير لكن كنا عايزين البشير ) معبرا عن امتعاضه بعدم حضور الرئيس البشير ، ذهلت من هذا الموقف وهذه التحية غير الدبلوماسية من العقيد القذافي ، وانتظرت انظر كيف سيتصرف النائب الاول فإذا به وبعفويه وابتسامة وبرود يرد ردا يضحك الجميع بما فيهم القذافي قال له ( يا قائد انا جيت قول الحمد لله البشير كمان بيجي) ، الزيارة الثانية كانت اعجب حيث كنا في حاجة ماسة الى شحنات من النفط ، ترددت على العاصمة الليبية طرابلس عدة مرات التقيت خلالها القذافي وكان في كل مرة يضع امامي مزيدا من الالتزامات التي يزعم اننا لم نلتزم بها . وفي اخر زيارة قدم دعوة للدكتور حسن الترابي لزيارة ليبيا لأنه يود مناقشته في قضايا اسلامية وفكرية . ليبيا كانت تحت الحصار الاممي بعد حادثة لوكربي ، الاجواء الليبية ممنوع الطيران فيها ، قبل ذلك حدثت حادثة اختفاء الامام موسى الصدر المتهم فيها النظام الليبي ، قابلت الدكتور الترابي ونقلت له الدعوة وفي ذهني شحنات النفط الليبية ، ( ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير ) لم يأخذ مني الدكتور الترابي وقتا طويلا فهو معروف بالشجاعة والتوكل لدرجة يحسبه البعض مغامرا وافق على الزيارة علها تكون سببا في الافراج عن شحنات النفط وطلب مني الاعداد للزيارة ، ذهبت للرئيس البشير وقصصت عليه القصة والدعوة فرفض رفضا قاطعا سفر الدكتور الترابي الى ليبيا ، في ذهنه طبعا اختفاء الامام موسى الصدر ، وحقيقة له كل الحق في منع سفر الدكتور الترابي خاصة وانه مستهدف وقد استهدف من قبل عند زيارته لكندا ، لجأت للراحل الزبير وطلبت منه ان يفاتح الرئيس ويراجعه في هذا الامر وقد فعل ، لم يستطع تغيير موقف الاخ الرئيس . ظللت اتردد على الاخ الرئيس وبدفع من الدكتور الترابي اُوسط شخصيات لتليين موقف الاخ الرئيس دون جدوى واشتدت الازمة والموسم الشتوي على الابواب ونحن في أمس الحاجة الى شحنات النفط الليبية اخيرا وافق الاخ الرئيس على سفر الدكتور الترابي ولكن بشروط محددة فما هي هذه الشروط وكيف تمت الزيارة وكيف كانت نتائجها هذا ما سنتعرض له في الحلقة القادمة..

*وزير خارجية السودان الاسبق ، استاذ العلوم السياسية – جامعة افريقيا العالمية