الصادق الرزيقي

نهايات الحوار.. ماذا بعد؟


> انتهت سجالات الحوار الوطني، ولملمت الأمانة العامة -كما جاء في مؤتمرها الصحافي خلاصاتها وأوراقها الختامية، ووضعت الـ90% من المتفق عليه في خزائنها المحصنة وعليها حرس غلاظ شداد، ودفعت للموفقين بما تبقى من نقاط مختلف عليها، وهي ليست على قدر كبير من الأهمية التي تجعل منها محل تنازع وشقاق، وتبقيت إجرائيات تتعلق بموعد انعقاد آلية «7+7»، ثم ترتيبات الجمعية العمومية التي ستحدد مواعيدها عقب اجتماع الآلية مع صاحب المبادرة وهو رئيس الجمهورية.
> المؤتمر الصحافي للأمانة العامة للحوار أمس بقاعة الصداقة، أجاب عن أسئلة كثيرة، وقُدمت فيه العديد من الإيضاحات حول القضايا والموضوعات التي أشكلت على الرأي العام أو شوشت عليه خلال الفترة الماضية حول مسار الحوار ونوعه وجدواه وثمراته اليانعات، وسيجد الذين قاطعوه وامتنعوا عنه، أنهم أضاعوا على أنفسهم وأحزابهم فرصة ثمينة في أكبر وأضخم عملية سياسية تشهدها البلاد منذ الاستقلال، فلو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا، لكان قرارهم غير الذي كان.
> مهما يكن من أمر، فما صدر عن الأمانة العامة من أقوال أمس، وما أشارت إليه من أفعال تمت وستتم، لهو أمر مطمئن، وبلا أدنى شك نجاح لتجربة سودانية فريدة، يمكننا أن نعدها من عبقريات الشعب السوداني في إنهاء نزاعاته واختلافاته.
> فالسودان على استمرار ظل مرشحاً من قوى كثيرة في الخارج، بأنه قابل للانهيار والتمزق والشتات في أية لحظة، وكانت الأنظمة التي أسقطتها ثورات الربيع العربي قبل أعوام قليلة قبيل انهيارها، تتوقع مصيراً مأساوياً للسودان، بل ظهرت تتلمظ بشماتتها المسبقة تتصور ما يمكن أن يحدث، وظل الإعلام الغربي وإعلام عربي تابع، وأبواق الدعاية السوداء، يرددون تلك الترهات ويتمنون أن يقع بلدنا في هاوية الصراعات والحريق ليتحول الى كومة من رماد.
> لكن لطف الله بنا، جعل الكثير من القادة السياسيين والمعارضين والحركات المتمردة ومن هم في المهاجر المختلفة، يتفقون على كلمة سواء، وينخرطون في حوار طويل امتد لعدة أشهر، ناقش كل القضايا الوطنية بعمق وصبر مدهش، حتى توصل الجميع إلى النتائج والمخرجات التي تنتظر إجازتها في الجمعية العمومية المقبلة وتتحول لأساس متين وقوي وصلب للدستور الدائم.
> إنجاز تاريخي ضخم كهذا، يجب أن ننظر إليه من عدة زوايا، حتى نتسوعب أهميته ودوره في جمع الكلمة ولم الشعث والشتيت المتفرق، وفوق ذلك كله هو تجربة سودانية خالصة مبرأة من أية تدخلات خارجية أو (روشتات) أجنبية أو اشتراطات من عدو أو صديق، فالوفود الأجنبية وممثلي البعثات الدبلوماسية بالخرطوم وأرتال من الإعلاميين والصحافيين والبرلمانيين من دول شقيقة وصديقة، الذين زاروا مقر الحوار بقاعة الصداقة وتابعوا مداولات اللجان واختلافاتها وتبايناتها، ثم توافقاتها، شهدوا جميعاً بأنهم أمام تجربة نادرة لم توفر في كثير من البلدان، وأعطونا شهادة براءة باختراع عظيم في عالم الحكم والسياسة، وأقروا بأن السودان ابتدع وسيلة فعالة وناجعة وناجحة في كيفية إدارة الحوار حول قضايا صراعية وخلافية حادة، كانت مثيلاتها سبباً في انهيار دول وانقسام شعوب، وذريعة لاشتعال نيران حروب في مناطق متعددة من العالم لم تهدأ بعد..
> بهذه العملية السياسية الفريدة سيبزغ في السودان واقع جديد، يكفل للسودانيين الحرية والمشاركة السياسية الفاعلة وترسيخ قيم التعايش والترابط واحترام التعددية الفكرية والحزبية وفي الرأي والتعبير والخصوصيات الثقافية، وسيمكن من ترقية الحياة السودانية اقتصاداً ومعاشاً وتجانساً وسلاماً، وسيحقق بالرؤية التي وضعت في مجال العلاقات الخارجية ما ظل ينشده بلدنا من دور تفاعلي في الفضاء الدولي ومواصلة إسهامه وإلهامه التاريخي في محيطنا الإفريقي والعربي. وتعزيز صلاته مع الأصدقاء والحلفاء الدوليين.
> سيعطي الحوار شرعية سياسية راسخة لما يتمخض عنه من تكييفات دستورية وقانونية للنظام السياسي الذي سيقوم على هدى المخرجات، وسيكون قوام هذه الشرعية هو مدى الالتزام بما تم التوصل إليه من نتائج ومخرجات وحجم النطاق والمدى في تطبيق ديمقراطية وتعددية راشدة، واحترام حقوق الإنسان وصون الحريات العامة وتحقيق تطلعات الشعب السوداني في الرفاء الاقتصادي والسلام والنهضة. ينتظر السودان الكثير من نهايات الحوار، وقد فرغ من الجهاد الأصغر وتبقى الجهاد الأكبر، وهو إقناع الذين عارضوا الحوار وقاطعوه، بأن يؤوبوا إلى الفلاح والتعقل والإقبال على هذا النوع الرفيع من التراضي والوفاق الوطني، ونسيان مرارات الماضي وتضميد جراحها، فما ينتظرنا الكثير والكثير..