تحقيقات وتقارير

يا أخي في الهند أو في المغرب.. أنا منك.. أنت مني.. أنت بي.. عالمية دعوة “الترابي”


“حسن نصر الله” يبرق من لبنان و”خالد مشعل” و”الغنوشي” و”عبد الله جاد الله” في السودان لأداء واجب العزاء

رئيس الجزائر يبرق معزياً والأمير “الحسن بن طلال” من الأسرة المالكة بالأردن يتصل هاتفياً

لم تقتصر أفكاره على السودان، ولن يتوقف تنظيمه وسط الحركات الإسلامية العالمية بعد أن وضع لها خارطة الطريق.. في أدغال أفريقيا له مكاتب، وفي آسيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والهند، وكان الشيخ “حسن الترابي” لا يعرف الحدود ويتجاوزها بعطائه في إطار عالمية الدعوة وكثيراً ما يردد مع المنشدين: (يا أخي في الهند أو في المغرب.. أنا منك، أنت مني، أنت بي لا تسل عن عنصري عن نسبي.. إنه الإسلام أني وأبي).. لذلك لم يكن من المستغرب في يوم وفاته أن يبكي رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) “خالد مشعل” من فلسطين ويضرب بكل المخاطر عرض الحائط ليقدم واجب العزاء في المنشية، ومن تونس جاء رئيس حركة النهضة “راشد الغنوشي”، ومن الجزائر رئيس جبهة العدالة والتنمية “عبد الله جاد الله”، ومن تركيا “سعيد شاهين” نائب رئيس حزب الهدى، و”محمد جميل بن منصور” أمين حزب التواصل الموريتاني.
بعث رئيس دولة الجزائر “عبد العزيز بوتفليقة” ببرقية عزاء، كما أبرق الشيخ “حسن نصر الله” رئيس حزب الله اللبناني معزياً، واتصل هاتفياً الأمير “الحسن بن طلال” من الأسرة المالكة بالأردن.. والشيخ “مختار كبي” والشيخ “أحمد لام” من السنغال، وتقاطرت الوفود من دولة جنوب السودان، وبعث “ألدو أجو دينق” نائب “الترابي” في المجلس الوطني وعضو برلمان جنوب السودان تعزية.
{ برقية رئيس دولة الجزائر
أعرب “عبد العزيز بوتفليقة” عن بالغ تعازيه وقال في برقيته:
(إلى أعضاء أسرة “حسن الترابي”
علمنا بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره وببالغ التأسي والأسى بوفاة المشمول بعفو الله ورضاه الدكتور “حسن الترابي” رئيس حزب المؤتمر الشعبي، أحسن الله قبوله إلى جواره مع عباده المنعم عليهم بالجنة والرضوان، وإثر هذا المصاب الجلل ولا راد لقضاء الله فيه أتقدم إليكم بأحر التعازي وأصدق تعاطفي.. سائلاً الله العلي القدير أن يتقبله الله برحمته الواسعة ويسكنه فسيح جناته ويعوضكم عن فقده جميل الصبر والسلوان وحسن العزاء.
لقد فقد السودان والأمتان العربية والإسلامية واحداً من أبرز الوجوه السياسية والفكرية والعلمية التي كرست حياتها لخدمة وطنها وأمتها في مختلف المسؤوليات في مؤسسات الدولة والمواقع السيادية، وإذ أجدد لكم التعازي أسأل الله أن يجازي الفقيد خير الجزاء على ما قام به من أعمال مبرورة ويجعل من هذا المصاب خاتمة أحزانكم.. “وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”).
{ كلمة الشيخ “عبد الله جاد الله” رئيس جبهة العدالة والتنمية بالجزائر
قال الشيخ “عبد الله” لجموع المعزين بالمنشية: (أسأله تعالى أن يكرم نزل فقيدنا الشيخ الدكتور “حسن الترابي” رحمة الله عليه وأن يسكنه فسيح جنانه وأن يرزقه على ما قدم لهذه الأمة عامة.. وأود أيها الأخوة أن أذكر نفسي وإياكم بما لا تجهلون بأن الموت حق كتبه الله على كل مخلوق، وأن نقلة إلى الحياة الآخرة والحياة الآخرة هي الأبقى والأخلد والقسمة فيها ثنائية إما شقاء في النار للأشقياء والفجار وإما سعادة في الجنة للمؤمنين والأبرار، فأما الذين شقوا في النار لهم فيها شهيق وزفير خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، وأما الذين سعدوا في الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض.. وأما طريق الجنة إنما هو طريق الطاعات، والطاعات مراتب ودرجات ومن أهمها وأعظمها ما ارتضاه الله سبحانه وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام، وهي الدعوة إلى الله سبحانه والعمل على إحياء مجد الدين ورفع الظلم الواقع على عباد الله، وقد خط الدكتور “الترابي” رحمه الله لنفسه خطاً عاش به ومن أجله، فما عاش لنفسه ولا لأسرته ولا للسودان خاصة، ولكن عاش للإسلام والأمة عامة، ولذلك فالمصيبة فيه مصيبة عامة يشترك فيها سائر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.. أنا من الذين تعرفوا على هذا الرجل الفاضل والعالم الفذ والمنظر المتميز، منذ قرابة ثلاثة عقود من الزمن، والذي همني من اجتهاداته على وجه الخصوص وهي متنوعة ومتعددة همني تنظيره للفقه الدستوري والسياسي، لأني أجد كمشتغل في هذا الميدان أن أهم ثقافة، وأهم علم ينبغي تحصيله على الراغبين في النضال والجهاد من أجل إحياء مجد الدين ورفع الظلم الواقع عليه وعلى حقوقه هذه الأمة، إنما هو الفقه الدستوري على وجه الخصوص، فالعاملون في الحقل الإسلامي يتطلعون لكي يمكنوا لهذا الدين إيماناً منهم بأنه منهج الله المرتضى لعباده في تنظيم شؤون حياتهم ومواقفهم وعلاقاتهم وأنه أعظم نعم الله على الإطلاق، وأول نداء رباني لآدم عليه السلام وهو نازل من الجنة للأرض متعلق بهذا المهنج “قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى”.. أما الوعيد “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى”.. وأن الله سبحانه الذي أنعم علينا بكل النعم وهي لا تعد ولا تحصى “وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا”، لم يتلفت إلى النعم الهادية التي يتزاحم الناس عليها إلى حد التقاتل، بل اعتبرها وكأنها بلا قيمة وكره الفرح بها كما في قوله تعالى في سورة “القصص”: “لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ”.. ولكنه التفت إلى نعمة الدين والإسلام والهداية وحبب لنا الفرح بها ذلكم قوله تعالى: “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ”، فإن يجتهد المرء في خدمة دينه وبسطه بين الناس وتربية الناس عليه وحشد طاقاتهم لنصرة هذا الدين وفق رؤية ناضجة ومنهجية واعية متدرجة ومتوازنة، فهذا تكريم من الله خص به عبده هذا ومن سار على نفس السير ما بعده تكريم على الإطلاق).
{ الشيخ “الغنوشي”: في ظل فكر “الترابي” الواسع التقينا في الخرطوم بالحركات القومية والمسيحية واليسارية
ردد “الغنوشي” في كلمته: (لا إله إلا الله.. الله اكبر.. الله أكبر.. هي لله.. لا للدنيا ولا للجاه)، وقال: (رضينا بقضاء الله وقدره لا يعزينا إلا ثقتنا وإيماننا بربنا سبحانه وتعالى أن فقيدنا العظيم في دنيا خير من دنيانا وفي جوار خير من جوارنا وفي حياة خير من حياتنا.. اللهم اسكن شيخنا وحبيبنا الدكتور “حسن الترابي” عالي الجنان والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. أخانا “إبراهيم السنوسي”.. أختنا المجاهدة “وصال”.. أخانا الكريم “صديق”.. أسرة الفقيد شعب السودان العظيم.. أمة الإسلام.. أحييكم جميعاً وأعزيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليس من اليسير الحديث عن رجل شغل الدنيا.. شغل الأمة.. خدم الأمة خلال أكثر من نصف قرن، وزرع في كل حقول الخير فكر التجديد وتجديد أصول الفقه وتجديد جوانب عظيمة من الفقه، فقه النساء والفن والفقه الدستوري، كما كان له عطاء عظيم في مجال العمل الاجتماعي والدعوي، فأنشأ منظمة الدعوة والإغاثة، وجلب للسودان خيرات كثيرة، واهتم بالفقه السياسي في مختلف جوانبه تنظيراً وعملاً وتنظيماً.. ليس من اليسير الحديث عن هذه الشخصية المترامية الأطراف المتعددة الأبعاد والمتنوعة العطاء، لو كان هنالك حسد في شيء لكان الحسد لهذا الرجل على المنازل العظيمة والخدمة الجليلة التي قدمها للأمة.. اللهم ارحمه رحمة واسعة)، وأضاف “الغنوشي”: (أول زيارة لي للسودان كانت سنة 79 كان الاتجاه للسودان ليس اتجاهاً طبيعياً لأهل المغرب العربي لأنهم كانوا في التاريخ يتجهون إلى المشرق وبلاد الشام ومصر، وعندما تبدلت الرياح نحو الغرب سارت رحلتنا إلى الغرب.. نحن التونسيين عندما اضطهدنا توجهنا للسودان، استقبلنا السودان خير استقبال وآوى مئات من أبناء النهضة في أيام عثرتهم، وكانت المظلة الأساسية هي مظلة شيخنا “الترابي” الذي حدب على أبنائنا وبناتنا وأطفالنا.. جزاكم الله خيراً أهل السودان فيما قدمتم للأمة من رجل عظيم أشاع في مختلف جوانب الفكر والعم الاجتماعي والسياسي والدولي والتنظيمي.. أهم ما لفت نظري في تلك الرحلة هو المكانة التي تتمتع بها المرأة السودانية في الحركة الإسلامية.. رأيت امرأة واثقة من نفسها تعامل بكل احترام وتشتغل في كل مجالات الفكر والدعوة ومجالات العطاء.. رأيت حركة تعمل مؤسساتها بشكل منتظم وكأنها إدارة حديثة مما كان غائباً في ذلك الوقت عن الحركة الإسلامية، وخرجت بانطباع أنه إذا كانت هنالك حركة إسلامية ستصل إلى السلطة فلن يُسبق السودان لما رأيته من جوانب تطور في الفكر والتنظيم والإدارة وفي مكانة المرأة ومكانة الفنون.. لم يخيب السودانيون ظننا فيهم فأسسوا أول تجربة في الحركة الإسلامية، هذه التجربة ككل تجربة بشرية قابلة لأن تقيم وأن تبرز جوانب البروز فيها والعطاء والنماء والتجديد، وجوانب النقص والبشرية في كل عمل من هذا القبيل.. ولكن الشيء الثابت اليوم أن هذا الرجل الذي انطلق من حركة إسلامية نواة صغيرة ولا يزال يستثمر فيها ولا يزال يعمل وينمي حتى تحولت دوحة كبيرة تظلل السودان كله وتشع على الأمة الإسلامية.. هذا الرجل ينبغي أن يعطى حقه في الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي والفكر الإنساني، لأنه كان رجل السياسة ورجل الفكر والدعوة والعمل الاجتماعي والإنساني. حضرنا هنا في المؤتمر الشعبي في سنة 90 أو 91 أيضاً هنا التقينا في الخرطوم ليس بأبناء الحركة الإسلامية من الباكستان والأفغان من المغرب وتونس، لكن التقينا أيضاً بالحركات القومية بمن فيهم “جورج حبش” وبما فيهم الحركات المسيحية والقومية واليسارية، ففي ظل فكر “الترابي” الواسع الفسيح اجتمع شرق الأرض ومغربها، لذلك “الترابي” ليس للسودان “الترابي” للأمة بل للإنسانية كلها وترك لكم معشر السودانيين عندكم في أيديكم أمانة عظيمة.. لعل آخر ما أنجز هذا الرجل هو الحوار الوطني.. الحوار الوطني هو جزء من فكر “الترابي” وفكر الديمقراطية والتأسيس للحرية.. هذه أمانة أخرى يتركها مجددنا في أيدي السودانيين، الحوار الوطني ليس معناه فقط الحرص على توحيد الحركة الإسلامية مجدداً والتي اختلافاتها مست من صورة السودان ومن صورة الحركة الإسلامية، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن يختم حياة هذا الرجل بعمل عظيم هو ليس فقط جمع جناحي الحركة الإسلامية وإنما جمع كلمة السودانيين بكل أطيافهم سلطة ومعارضة مسلمين مسيحيين سلميين وحاملي سلاح.. كل هؤلاء سودانيون وكلهم جلسوا يتحاورون بدعوة من رئيس الدولة الرئيس “عمر” التي استجاب لها الدكتور “الترابي” متحاملاً على نفسه مما ترسب فيها من دروب من الغي، ولكن الرجل تحامل على نفسه من أجل السودان.. وأنا هنا أريد أن أقول كلمة حول صبر هذا الرجل وشدة عزيمته، كان في جولة في بريطانيا في إحدى الجولات كنا معه وفي استراحة في الطريق سائق السيارة نسي مفتاح داخلها وأغلق الباب فلما رجع الناس إلى السيارة وجودوها مغلقة.. ما هو الحل؟ باءت كل المحاولات بالفشل وسائق السيارة رضي أن يكسر زجاج السيارة، وحينها تقدم الشيخ “الترابي” وقال اتركوا لي المجال ونزع الجاكيت وعمل على زجاج السيارة لمدة ساعة ونصف الساعة إلى أن تمكن من زحزحته قليلاً وفتح باب السيارة.. نحن هنا أمام رجل ذي عزيمة.. أمتنا تحتاج إلى هذه العزيمة، إلى أن نصبر على أنفسنا وعلى مشكلتنا، أن نتجنب كسر الزجاج والعنف.. هذا هو “الترابي”.. هذا مشهد من مشاهد شخصية هذا الرجل ساعة ونصف الساعة وهو يعمل إلى أن فتح فجوة قليلة من خلالها أدخل مسماراً وفتحت السيارة دون حاجة إلى كسر.. أمتنا ليست بحاجة إلى كسر بل إلى صبر، أن تتجنب العنف.. فكر “الترابي” هو الفكر النقيض لفكر الإرهاب.. تحتاجه الأمة اليوم حتى تقاوم الإرهاب لأن الإرهاب قائم على فكرة الأبيض والأسود وتبسيط الأمور المعقدة، واعقد من أن تختصر في أبيض وأسود، وحرام وحق وباطل، الأمور أكثر تعقيداً من هذا، وتحتاج إلى رجل صبور، تحتاج إلى رجل ذي أبعاد متعددة مثل “الترابي” لنقاوم الإرهاب.. نحن في بلادنا اليوم نقود معركة ضد الإرهاب، وهذه الأيام الأخيرة أصابوا منا إصابات شديدة، ولكن الفكر بالأبعاد السياسية المتعددة يقاوم.. فكر الأولويات والمصابرة والحلول التدريجية ومقاومة العنف، وزرع الفكر الديمقراطي في ثقافتنا الإسلامية، والتوكل على الله قبل ذلك وبعده هو ما نحتاجه اليوم ونحن نعزي أمة الإسلام في السودان في شيخنا الفقيد العظيم الذي شغل الدنيا).

الخرطوم – طلال إسماعيل – جريدة اليوم التالي