الهندي عز الدين

في وداع الرجل الذي سحر الكونغرس!


فقد السودان الشقيق والعالم العربي والإسلامي عَلَماً عالماً وقمة من قمم الفكر والسياسة والدعوة الأستاذ الدكتور الشيخ العلامة “حسن الترابي”، هذا المتعدد المواهب، والعظيم الفكر، والبعيد التخطيط، الذي تجاوز القُطر إلى آفاق العالمية.
دعاه الكونغرس الأمريكي فخاطبهم خطاباً سحرهم فأرسلوا له أحد عملائهم ليقتله في كندا، إذ دعاه الكونغرس الكندي أيضاً، فضربوه في المطار ضرباً أوصله حافة الموت، وبقي في غيبوبة مدة من الزمن، ثم تم نقله إلى السودان، وقال الأطباء الكنديون: إن عاش هذا فسيعيش فاقد النطق، وكان نقله إلى السودان قبل وقفة الحجيج بعرفة وطلب أحبابنا في السودان أن يدعو الحجيج له بالعافية وقد كان، فعاد إلى الحياة وإلى النطق في شبه معجزة، وليس على الله بمعجز.
وصلتي بالدكتور “الترابي” رحمه الله تمتد إلى قرابة (40) سنة. خاصمه كثيرون، واختلف معه كثيرون، لكن إن اتفقت معه أو اختلفت لا تملك إلا أن تحترمه وتقدره.
اختلف مع الإخوان في مصر، وكان الحق معه في ما أرى، ففكره سابق فكرهم.
زارنا في عمّان مرات، وزرته في السودان مرات، ودعاني في بيته مرات، وكان من نماذج الكرم والسماحة.
في سنة 1990 م بذل جهداً هائلاً مع مجموعة من كبار شخصيات العالم العربي والإسلامي لوقف الحرب على العراق، ولكن المؤامرة كانت أضخم من التصور ومن إمكان الاحتواء.
روى لي عن مقابلته للإمام “الخميني” وقال: مع أن الخميني يعرف العربية فإنه لم يتكلم معنا كلمة بالعربية أنفة، وكان مترجم بيننا يترجم كلامنا له، وكأنه لا يفهم العربية، وكيف وهو قد عاش في العراق من عمره سنين؟ وقال: قلتُ له: لماذا لا نسمّي الخليج العربي (الخليج الإسلامي) لنخلص من نزاع عربي وفارسي؟ فانتفض كمن لُدغ وهبَّ واقفاً، وقال: انتهت المقابلة!!
وذكرياتي مع “الترابي” عديدة هنا وفي الخرطوم، وأذكر من هذه الذكريات أن السيارة كانت تسير بنا في دوار الداخلية، ونحن ثلاثة أو أربعة، فقال: ستسمعون أخباراً طيبة من السودان خلال ستة أشهر ولا تسألوني ما هي، وقبل انتهاء ستة أشهر كان انقلاب “البشير” الذي سُجن على إثره “الترابي”.
وأُفرج عنه بعد وقت، وذهبتُ أزوره في بيته في الخرطوم وأهنئه بالسلامة واستقبلنا بالبِشر المعهود، وقلنا له: ما هذا الذي صنعتموه؟ فقال: “مبارك” كان يعد لانقلاب في الخرطوم فسبقناه، وقلتُ لهم: ضعوني في السجن ليظن هو والأمريكان أن الانقلاب لهم وقد كان، فنقل “مبارك” لأمريكا أن هذا هو الانقلاب الذي دبّره، فاعترفت أمريكا بالانقلاب، وقال: وكان الشرطي السجان يعاملني بمنتهى القسوة لا يدري ما الأمر.
ومما قال لي “الترابي”: عرضنا على “مبارك” أن نزرع القمح في السودان والذرة والمحاصيل والحبوب بخمسة ملايين مزارع مصري والأرض من السودان والمال من الخليج، فكان رده: “أمريكا ما تسمحش”.
وأهديت “الترابي” بعض كتبي فكان من تواضعه وأدبه العالي يضع الكتاب على رأسه، وليس عندي ما أُضيفه إليه ولستُ قطرة في بحره، ولكنه أدبه.
وكنتُ أقول له: ما حدّثتني في ساعة يحتاج إلى تفريغه من ذهني إلى الورق يحتاج منّي إلى (24) ساعة، لزخم الفكر الإستراتيجي الذي يطرحه، ولستُ مبالغاً- علم الله-.
في إحدى زياراته لنا في عمّان ألقى كلمة في أحد مجتمعات عمّان وكان يضم نخبة من علية السياسيين والمثقفين والإعلاميين، فتكلم كلاماً ما سمعوا بمثله، وما كان منهم أحد إلا مدهوش، وكان بين الحضور “صلاح أبو زيد” أحد وزراء الإعلام المعدودين في الأردن.
والكلام عن “الترابي” لا ينتهي لأن صاحب هذا الكلام- أعني الذي نكتب عنه- مواهبه لا تُبارى، فهو يُتقن من اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية، قراءة وكتابة وحديثاً، أما العربية فحدّث ولا حرج، ويحفظ القرآن بالقراءات السبع، ومن أعجب خصائصه أن ابتسامته في أحلك الظروف لا تفارق وجهه.
وكل ما قلناه قليل في حق الرجل الذي قضى من عمره في عالم العرب الذي يضيق بالفكر وأصحاب الفكر، قضى من عمره في السجون سنوات طويلة.
تقبله الله وأعلى منزله، وعفا عنه وعوّض السودان والأمة خيراً، ولأهله الكرام ولأهل السودان أحرّ التعازي.
د. أحمد نوفل- الأردن


‫2 تعليقات

  1. امريكا لو كان عايزة تغتال الترابي كان اسهل عندها من كتابة مقال