ضياء الدين بلال

الترابـي ورحيل الكبار


سألني صديق عزيز.. لماذا تكثر من طرح أسئلة عن الدكتور حسن الترابي في برنامجك (فوق العادة) بقناة الشروق السودانية؟ قلت له دون طويل تفكير، في السودان الحديث منذ الإمام المهدي إلى اليوم توجد ثلاث شخصيات غيرت مسار التاريخ بأحداث كبيرة فارقة، الرئيس جعفر نميري بتطبيق الشريعة الإسلامية 1983 وجون قرنق بمشروع السودان الجديد وما ترتب عليه من انفصال الجنوب وحروب في الأطراف ودكتور حسن الترابي بالانقلاب الذي تم في 30 يونيو 1989.

قليلون هم الذين باستطاعتهم تغيير مجرى التاريخ في بلدانهم غالب السياسيين تجدهم غارقين في تفاصيل الحاضر ومن السهولة مسح اسمائهم بقطعة قماش مبللة بماء فاتر من على سبورة الأحداث.

اسم دكتور حسن الترابي لن يستطيع الزمان تخطيه بتجاهل وعدم اكتراث بل سيقف عليه طويلا يرصد ويحلل ما فعل وما كتب وما قال. منذ بدايتنا في دروب المعرفة واكتشاف عالم السياسة والأفكار كان شيخ الترابي موضع اهتمامنا تشدنا إليه شخصية أسرة لا تستطيع أن تتعامل معها بحياد وعدم اهتمام.. نبرات صوته لها سطوة على الأذان.. شعاع عينيه بجاذبية المغناطيس.. حركات جسده تجعلك في أعلى درجات الانتباه. قادر على مفاجأتك في أي لحظة بفكرة جديدة وملاحظة ذكية وتعليق ساخر يضع الملح على الجرح والسكر على الابتسامة.

ذهبت لمحاورته قبل سنوات حينما كنت أعمل بصحيفة (الرأي العام) للرجل هيبة طاغية ترتجف لها الأطراف ويجف الحلق.

الحوار معه مهمة ذهنية شاقة تحتاج لتركيز ومتابعة لا تتوفر لأمهر لعيبة الشطرنج.

في كل مرة أجد نفسي أكثر انجذابا لأطروحاته الفكرية من تجربته في السياسة التي تتسع فيها مساحات الأخذ والرد والتحفظ والاعتراض.

حينما اطلعت على مقال مطول بمجلة الفكر الإسلامي عن الثابت والمتحرك في الدين أدركت أنني أمام مفكر عظيم صاحب رؤية متجاوزة للمعتاد والمتاح.

وعندما وقع في يدي الكتيب الصغير (تجديد أصول الفقه) عرفت ان دكتور الترابي وضع اصبعه على مكان العلة التي قبل علاجها يستحيل استنباط أحكام فقهية تناسب العصر وتوافق العقل.

أما الكتيب الأصغر (المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع) فهو رغم محدودية صفحاته إلا أنه حمل أفكارا عظيمة متقدمة من حيث المنطق وقوة الحجة على كثير من الأطروحات السابقة. ما كان يميز شيخ الترابي عن كثير من السياسيين الجرأة في اتخاذ المواقف والشجاعة في التعبير عنها فهو يصارع بقوة ووضوح ويوافق ويسالم بصدق وتجرد.

كنت في سنوات مفاصلة الإسلاميين وما ترتب عليها من صراع أجد فيه شخصا حانقا معتقلا في مراراته.

منذ عامين أو أكثر قليلا لم يعد الترابي ينظر إلى الماضي بغضب، بل على العكس؛ أصبح أكثر عنايةً واهتماماً بالمستقبل لصنع معادلة سياسية تحقق السلام والحرية وتجنب السودان الفتن.

عقب المفاصلة حينما زار وفد زعامي إفريقي دكتور الترابي، سُئِلَ أحد أعضاء الوفد عن انطباعه عن شخصية المَزُور. الرجل لخَّص الترابي في وصف محكم، حيث قال: (هو رجل غاضب، غير معنيٍّ بالمستقبل)! وكنتُ قد كتبت قبل ثلاثة أعوام في هذه المساحة، بعد مشاهدتي لمقابلة أجرتها الإعلامية المصرية المتميزة منى الشاذلي، مع دكتور الترابي: (أشعر بكثير من الحزن والأسى، أن تُهدرَ طاقة وتجارب وأفكار وخبرات رجل مثل دكتور الترابي، في مغالطات التاريخ ومرارات الراهن، مع العجز التام عن صناعة الآمال).

في الفترة الأخيرة ربما بعامل العمر والشعور بدنو الأجل، وما يحيط بالراهن السوداني من أزمات، وما يتهدد المستقبل من مخاطر، كان يراها بالعين المجردة دون الحاجة لمكبرات بصرية، جعل الرجل على استعداد لتقديم أفضل ما لديه من رؤى وأفكار. رحل دكتور الترابي نظيف الوجدان متجردا من المشاعر السالبة رحل بجسده وترك أفكاره النيرة وأمانيه الطيبة للشعب السوداني بالرفاه والاستقرار فنال حسن الخاتمة السياسية.

قلت لصديق ونحن بصيوان العزاء نشاهد دموع الكبار من كل الطيف السياسي السوداني لماذا يجمعنا الموت وتفرقنا الحياة؟