حيدر المكاشفي

في داخلي حديث ولكن في فمي ماء


تمور دواخلي منذ عدة أيام بأحاديث شتى (واقفة لي هنا دا)، ظللت أكظمها رغم غيظي من هذه (الكتمة) التي فرضتها على نفسي بنفسي، ليس حباً في تعذيبها ولكن لتقديرات سآتي على ذكرها، وقد ذكّرتني هذه الحالة (الشلش) التي أعانيها بالمثل العربي الذائع (في فمي ماء) والذي قيل فيه شعراً (قالت الضفدع قولاً فسرته الحكماء.. في فمي ماء وهل ينطق مـــن فـــي فيـه ماء)، وقد يسألنا سائل ما الذي يمنعك من قول ما تريد، فكظمته مغتاظاً، ولماذا لم تلفظ هذا الماء الذي ملأ فمك ومنعك الحديث أو بالأحرى الكتابة الطليقة…
أقول ما منعني هو تلك التقديرات والأسباب التي وعدت بذكرها، وهي ليست بأية حال من الأحوال سبباً يخص شخصنا الضعيف وذاتنا الفانية وقلمنا المتواضع الذي خرجنا به أصلاً (للربا والتلاف)، ولكن تقديرنا لمصالح أخرى هو الذي يمنعنا ويجعلنا نمتثل (صاغرين) ومكرهين وفي قلوبنا حسرة وفي نفوسنا شيء من حتى، حتى لا تضار الصحيفة التي نعمل بها أو يتضرر و(يتجرجر) مسؤول التحرير الأول دون ذنب يعطله عن تسيير دفة العمل، وربما يدفع به إلى حراسات الاعتقال باعتباره المتهم الأول، ولو كان الأمر غير ذلك، لما ترددنا لحظة أو اكترثنا لهنيهة في كتابة ما نعتقده صحيحاً باستعداد تام لتحمل كامل المسؤولية عنه، وليت قانون الصحافة المزمع أو أي قانون آخر ذي صلة بقضايا النشر يخلي مسؤولية الصحف ورؤساء التحرير من مقالات وأعمدة الرأي، ويلقي بتبعة ما يرد فيها على أعناق أربابها، فالقاعدة الصحفية المهنية الذهبية المتوارثة جيلاً عن جيل، تقول إن الخبر مقدس والرأي حر، وحرية الرأي هذي هي ما يلزم الصحافيين أخلاقياً ومهنياً بإتاحة المجال له واسعاً بلا تدخل أو شطب أو كشط أو سنسرة أو حجب، إلا إذا كان هذا الرأي يحتوي على أكاذيب بائنة أو يلقي باتهامات جزافية أو يشتمل على إساءات شخصية، أو يتناول بالتعريض والتسفيه المقدسات الدينية، أو يصادم ما استقر عليه المجتمع من أعراف وقيم حميدة، وغير ذلك من محددات مهنية يعرفها ويراعيها الصحافيون المهنيون، ليس خضوعاً لجهة أو خوفاً من أخرى، بل لأنها طبع أصيل فيهم ومكوّن أساسي من مكونات أخلاقيات مهنتهم، تواضعوا عليها برضاء وقناعة.. أما ما خلا ذلك فليس هناك قوة في الأرض يحق لها أن تمنع الرأي أو تحجبه، أو هذا ما يفترض أن يكون، وليس لأحد بالغاً ما بلغ من سلطة أو جاه أو مال، أن يمنع الآراء الحرة من أن ترى النور إلا قهراً وتجبراً وعلّواً في الأرض.