مقالات متنوعة

محمد لطيف : ونُودي آل داؤود.. أنِ اطحنوا


عادة ينظر الناس إلى الحكومة عموما وإلى المسؤولين فيها.. بإاعتبار أنهم إطفائيو حرائق لا مشعلوها.. ربما تذكر الناس هذه القاعدة البدهية.. حين تفجرت أزمة القمح.. من أبرز أقوال وزير المالية.. إنه وبعد تعديل سعر دولار القمح فإن سعر الجوال لن يتأثر.. أي لن يزيد.. واليوم بلغ سعر جوال الدقيق مائة وخمسة وثلاثين جنيها، أي بزيادة تقارب العشرين في المئة.. ثم كان لوزير المالية قولته الشهيرة أيضا.. إن توقف مطاحن سيقا.. بل حتى خروجها من سوق الإنتاج لن يؤثر على المخزون أو الإمداد المطلوب من الدقيق.. وبعد نحو سبعة أشهر من الخطل والتخبط.. وحين فاض الكيل.. كان لابد من عقلاء.. ونودي آل داوود.. أن اطحنوا.. ثم.. كان وزير المالية هذا قد جرد جيش الحكومة كلها لتذم الصحافة وتصمها بالكذب لأنها قالت إنه ينوي رفع الدعم.. وكان مضحكا بعد كل تلك.. الكواريك.. أن يرتفع سعر الغاز إلى ثلاثمائة في المئة.. ولا يزال وزير المالية في مقعده..!
غير أن موضوع الدقيق هذا ما لا يمكن العبور عليه هكذا.. وحين نتحدث عن حكاية القمح والمطاحن الوطنية من جهة.. وبين الدقيق والمستوردين و(السماسرة) من جهة أخرى.. فنحن في الواقع نخوض بحرا لجيا لم نبلغ قراره بعد.. وتطول معركتنا مع هذه الصورة المقلوبة.. حين تخوض معركة بين حماية الصناعة الوطنية ودعم العمالة الوطنية.. وبين حماية الصناعة الأجنبية ودعم العمالة الأجنبية أيضا.. ولئن كانت مسألة حماية الصناعة الوطنية الدوائية قد وجدت أخيرا من يعنى بها ويلتفت إليها في أعلى مستويات الدولة.. فيبدو أن إنتاج الخبز بكل مراحله ينتظر هو الآخر تدخلا سياديا يحمي المنتِج والمنتَج الوطني في مواجهة (السماسرة).. عفوا فبعض الاستيراد ضرب من ضروب السمسرة..!
والمنطق السليم يقول إن أي دولة راشدة إنما تبذل قدراتها وتحشد مواردها لدعم وحماية صناعتها الوطنية في أي مجال.. فما بالك إذا كانت هذه الصناعة الوطنية.. سلعة سياسية بالدرجة الأولى.. وسيما إذا كانت هذه الصناعة تملك ميزة تفضيلية تنافسية.. من شاكلة المطاحن التي تعمل بأحدث التقنيات العالمية بسعة إنتاجية تبلغ ثمانية عشر ألف طن في اليوم.. علما بأن الاستهلاك اليومي لا يتجاوز سبعة آلاف وخمسمائة طن.. أي أن المطاحن يمكن أن تحقق فائضا للتصدير يتجاوز العشرة آلآف طن يوميا.. فأي عاقل يرفض هذا.. وأي خطة اقتصادية راشدة يمكن أن تحارب هكذا مشروع؟.. وأي إدارة حكيمة تركل هكذا مورد للعملات الحرة؟.. والمفارقة أن سوق الاستهلاك الخارجي يحيط بالبلاد إحاطة السوار بالمعصم.. بدءا من إريتريا أعلى الشرق مرورا بإثيوبيا ثم جنوب السودان ثم أفريقيا الوسطى.. وانتهاء بتشاد.. ومرة أخرى أي عاقل يرفض هذا..؟
والمتأمل في صناعة الخبز يجد أنه يشهد سلسلة من العمليات تتشابك وتتكامل وتضيف كل مرحلة للأخرى نوعا وقيمة.. والأهم من كل هذا.. أن كل هذا وبمر السنين.. إنما بنى رصيدا هائلا من الخبرات الوطنية والمعارف والقدرات والعلاقات المتكاملة والمكملة.. ثم عشرات الآلاف من العاملين وأسرهم وذويهم.. فكيف تتجاهل الدولة كل هذا وتذهب لدعم المنتِج الأجنبي باستيراد المنتَج الأجنبي؟.. وفي معركة طواحين الهواء مع سيقا مثلا لعل الدولة قد فات عليها أن سيقا لم تكن مجرد مطحنة للقمح توزع الدقيق للمخابز.. بل تحولت إلى مصدر دعم فني وتطوير وتأهيل لتلك المخابز عبر دورات التدريب وتوفير معينات تحسين المنتج ورفع ثقافة العمالة وتحويل المخبز من مجرد خباز في أحد الأحياء إلى خلية في شبكة وطنية ضخمة تقودها وتوفر احتياجاتها مؤسسة وطنية لها التزاماتها الأخلاقية والمعنوية تجاه المخابز لا مجرد موزع للدقيق تبدأ مهمته بوصول الدقيق المستورد إلى مخازنه وتنتهي بتفريغ تلك المخازن.. عودة مطاحن سيقا إلى السوق تعني الكثير.. وتقلب الطاولة على كثيرين