مقالات متنوعة

أ.د عمر شاع الدين : مسرحية النظام يريد = عوارة


لا أتجاوز محض الصدق إن قلت إنها إضراب من إسفاف انحدر بنا لهاوية سحيقة وسخيفة! هي لا ترقى بفكرنا ولا ترضى مقصدنا. وغاية مرادها الخفي أن تشعرنا بالرضا والفرح تجاوزا لجذوة الغضب.. هكذا ! وهذا عين الإسفاف.
أذكر ذلك اليوم المشؤوم وقد تحاملت على النفس المكلومة عساني أروح عنها الغبن والفاقة.. ذهبت أمتع العين برؤية معرض تشكيلي مقاما عند صالة المركز الثقافي الفرنسي، وله اليد الطولى في امتاعنا الفني والثقافي.
أدهشتني الحشود في فناء المركز، وعلمت قصدها مشاهدة مسرحية النظام يريد.. وقد سمعت عنها حمدا، فقلت لنفسي: تعالي نبعد عنا عناء الدهر ونمتع النفس بمشاهدتها.. فهذه الحشود الشابة لا شك أنها نالت رضاها.. واستعنت بعضلاتي الواهية، ثم تهذب القائمين على المركز فأفسحوا لي تقديرا لسنين العمر.. وعندما تربعت على كرسي تفرست وجوه الحاضرين فلم أجد أحدا في سني. وكدت حينها أخرج، لولاء منازعة نفسي أن أجد مبررا مستساغا لهذه الحشود! ثم ما أخشاه أن تكون المسرحية (بيضة الديك) التي طال انتظارها في سوداننا الحبيب !
وبدأت المسرحية وأنا أستشرفها بشوق.. ثم غمرني الغثيان أولا، وانهمرت عليّ إضراب من عباطات تثير التقزز، فهي لا تحمل مضمونا يستحق هدر الوقت وما وجدنا من مضمون فهو جنين أو ضنين ومجهد في الاصطناع والمآرب !! يذكرني بالقلوبية التي كنا صغارا نصطاد بها الطيور! وهكذا جعلنا الدهر الغشوم طيورا! ثم بعد لفت انتباهي إسفاف لغة الحوار.. فهي موغلة في السذاجة والسخف وهذا بداهة مقبول ما دام مرامها صيد الجمهور (الطيرة) ! والذي أدهشني تجاوبه مع المسرحية ما جعلني أشك في صدق حدسي وإذهب إلى أنني أنا (الطيرة) لا غير ولا ضير!! أشد ما أحزنني.. إقبال الجمهور عليها! ما دفعني لأن أصرخ حزنا، وألعن تلك اللحظة التي رمت بي هنا.
أنا الآن وقد مضى أكثر من أسبوع، أكد ذهني وأقدحه وأسقيه، عساه يسعفني بتذكر بعض المشاهد.. ولكن هيهات لا أحصد غير اليباب.. ولا تعلق إلا مشاهد السخف الممل والممض.
لي رأي يبدو جارحا محرجا وهو أن بنائية المسرح في السودان قامت على فرضية أن (العوارة) هي مدخلنا لكسب الجمهور، ولذا أغدقوا علينا أكواما منها ولقد أفعمونا بالاحتقار وأفغمونا بالسخف، وتناسوا عمدا أهداف المسرح السامية. لقد أحزنني أن بعض الممثلين ممن كنت أحسب فضلهم ورأيتهم يتعاورون، فهالني فدح الخطأ الذي وقعت فيه.. وهذا بداهة لا يعني أن المسرح السوداني كله (فارغ) فهناك أعمال جليلة لا يزال صداها يرن في المسامع.. لكن أين نحن الآن من هذا التردي؟!
الآن وبعد شهر من كتابتي.. وأنا أقلب أعمال للساخر المازني لم تنشر تم جمعها وجدته يعاني ما عانيت من سخف مسرحية شاهدها في يوليو 1936 بالإسكندرية أي قبل ثمانين عاما كان المسرح عندهم (عوارة) وبعدها تجاوزها منطلقاً لإبداعات عالقة بالذهن أبدا، هذا يعني أن ما بيننا ومسرحهم الآن ما يقارب القرن.. فهم السابقون السابقون، لذا رأيت أن أنقل للقارئ الكريم ما كتبه وهو ما يتوافق وحالي: “رأيتني جالسا في مسرح بمدينة الإسكندرية كما يجلس القاضي في جريمة يحمل أهلها بين يديه آثامهم وأعمالهم.. ويحمل هو عقله وحكمه. قد ذهبت لأرى كيف يتساخف أهل هذه الصناعة، فكان حكمي أن السخافة عندنا سخيفة جدا !!
رأيتهم هناك ينقدون العيوب بما ينشئ عيوبا جديدة، ويسبحون بأيديهم سباحة ماهرة، ولكن على الأرض لا في البحر، وتكاد نظرتهم إلى الحقيقة الهزلية تكون عمى ظاهرا عما هي به حقيقة هزلية، ولا غاية لهم من هذا التمثيل، إلا الرقاعة والأسفاف والخلط والهذيان، إذا كان هذا هو الأشبه بجمهورهم الذي يحضرهم، وكان هذا هو الأقرب إلى تلك الطباع العامية البليدة التي اعتادت من التكلف الهزل ما جعلها هي في ذات نفسها هزلا يسخر منه.
ولا أسخف من تكلف النكتة الباردة قد خلت من المعنى، لأن تكلف الضحك المصنوع يأتي في عقبها كالبرهان على أن في هذه النكتة معنى.
فالفن المضحك عند هؤلاء إنما هو السخف الذي يوافقون به الروح العامية الضئيلة الكاذبة المكذوب عليها، التي يبلغ من بلاهتها أحيانا أن تضحك للنكتة قبل إلقائها، لفرط خفتها ورعونتها، وطول ما تكلفت واعتادت، فما ذلك الفن إلا ما نرى من التخليط في الألفاظ والتضريب بين المعاني وإيقاع الغلط في المعقولات، ثم لا ثم بعد هذا، فلا دقة في التاليف ولا عمق في الفكرة، ولا سياسة في جمع النقائض ولا نفاذ في أسرار النفس، ولا جهد يؤخذ من هزلية الحياة ولا عظمة تستخرج من صغائرها، ولا فلسفة تعرف من حماقاتها.
الفرق بيعد بين ضحك هو صناعة ذهن لتحريك النفس وشحذ الطبع وتصوير الحقيقة صورة أخرى، وبين ضحك هو صناعة البلاهة للهو والعبث لا غير”.
* مراجعة: الرّمة
مما يطرق السمع في كلامنا القول: أخذ الشيء برمته، بكسر الراء، بمعنى: بجملته.. هذا مكمن الخطأ، إذ يذهب المعنى في الفصيح إلى أخذ الشيء بعظمه البالي!! هكذا! وليس هذا موافقاً للحمد الذي نريده في قولنا، ولا للكمال الذي نرجوه في اللغة.
صحيح القول لغة بالضمّ: الرُّمة، وهي القطعة من الحبل وبه سمي (ذو الرُّمة) الشاعر، وأصل القول كما في القاموس المحيط: إن رجلا أعطى آخر بعيرا، كان في عنقه حبلا، فقيل لكل من دفع شيئا بجملته: أعطاه برمته، فكان قولهم: هذا صاحب الرُّمة أي الأمر جميعه، وأما الرّمة بالكسر: العظام البالية، والنملة ذات الجناحين، والأرضة.
قلت: قولنا في الكلام ذما: فلان رمة، وغالبا ما نعقب بالوصف: معفنة، هو يوافق اللغة الفصيحة مع شطط قسوته!!
* رحيل محمد الحسن عبدالله طه
ما ذكرنا اسم عبدالله طه إلا وكان اسم أمروابة عالقا بالذهن، فهو واحد ممن بنى مجدها الاقتصادي الذي ساهم في بناء الاقتصاد السوداني، لقد كان عميدا لأسرة امتد نشاطها التجاري عريضا خاصة في صناعة الزيوت، ولا غرابة فأم روابة كانت حاضرة الزيوت على امتداد نشاطه حتى العاصمة.
بالأمس القريب رحل عنا رجل من أخيار الرجال هو الابن الأكبر لهذه الأسرة الكريمة، وهو يقينا من أمسك بدفة القيادة بعد والده واستطاع بجدارة وحنكة أن يسير بالعمل قدما وأن يتوسع في الصناعة، وأن يحافظ على مكاسب الأسرة وجلال اسمها.
كان الراحل محمد الحسن رجلا عرف بالنبل ومساعدة الضعفاء، وفضائل الأخلاق وقد استطاع أن يلمّ بالكثير من أسرار وهندسة صناعة الزيوت، وكثر ما وجدناه يمارس إصلاح الأعطاب باقتدار ودراية اكتسبها خلال الممارسة الطويلة، أنا الآن أتذكر أفضال جمة فيه وإحسان كان الراحل يصل به كثيراً من الأسر الكريمة التي أعوزها الدهر.. كان يفعل هذا في خفاء تام، وفي صدق واضح.
وحمدا لله أن أسرته إستطاعت أن تحافظ على مجدها التليد وأن يتوسع عملها وخيرها العميم وقد زادهم الله خيرا.
رحمه الله عليك أيها الأخ النبيل.. وجعل الجنة مثواك مع آبائك الصالحين، و”إنا لله وإنا إليه راجعون”.

أ.د عمر شاع الدين
مركز الضاد للدراسات العربية