أ.د. معز عمر بخيت

ود أب تشة.. هدأةٌ من رَهَقْ الحياة (1-2)


عكس الريح اليوم حقل للضوء يستنير بقلم الكاتب الأنيق: الرفيع “بشير الشفيع”، بريتوريا جنوب أفريقيا في قصته (ود أب تشة: هدأةٌ من رَهَقْ الحياة). تقول الحكاية: في طريقنا أنا وابني من جوهانسبورج وسيارتنا تسابق الريح إلى منزلنا في بريتوريا نلاحق وقت إفطار رمضان، قلت له: يا ابني أيامنا في الستينيات والسبعينيات كانت أجمل من أيامكم هذه، رغم ما ترى أمامنا من بهرجة وألوان وزخارف لدنيتكم هذه، ورغم ما تملكون ما تظنون أنه نعيم، وما تظنون أنه حضارة وعمارة، ورغم هذه البنايات العالية، والطرق، والتقنيات، ووفرة كل شيء من مواصلات واتصالات وخلافه، فقال: كيف؟ قلت له وقد بدأ يرَّق السمع إليّ: يا بني أتصدق أننا كنا في صغرنا، نسرق! تسرقوا عديل يا بوي؟ نعم والله! بعد كلامك لينا دا كله يا بوي! عن الأمانة والخيانة وتحريم السرقة؟ نعم يا بني! بل نسرق ونتباهى بذلك، كيف!!!؟ قلت له: يا بني ما أجملها وما أبرأها من سرقة وما أنبلها وأحلاها، كنا يا بني عند مناسبة (طهور) واحد منا ونحن صغار، نقوم نحن أصحابه، وبعد أن يهجد الناس في بيوتهم ويستغشون ثيابهم ننتشر في الحلة انتشار الثعالب الصغيرة، نسرق ِحلل الحليب من (المشلعيب) من بيوت الجيران، ونسرق بطاطيرهم، وعصيهم، وحتى بيض الدجاج، وثياب الناس وأحذيتهم، وكل ما نجده أمامنا، ونجلبه لبيت العريس، الذي هو صديقنا (ابن الطهور)، وعندما يصبح الناس ويفتقدون ممتلكاتهم المنهوبة، يكون أول سؤال منهم، يا جماعة الحلة دي فيها طهور ود منو البارح؟ وبعد معرفة العريس، ومن هو وأين يسكن، يحضرون إليه فيجدوننا نحيط به، حاشية من سارقين صغار، نعرف من سرقنا وماذا سرقنا، وهو كالأمير الصغير منطرح في فراشه البرش الأحمر العنابي المكحول (بالتفتة) الزرقاء المحلاة أطرافها بألوان كألوان الطواويس، يعلقُ طرف ثوبه (العراقي الدبلان) بخيط إلى سقف البيت حتى لا ينكأ جراحه، وهو محنن اليدين، والرجلين، وعلى رأسه هلال من ذهب معقول بعجينة الصندل المبهور بالخمرة، والمبلل بعطور بنت السودان المعتقة برائحة المسك، تزدان يداه بالحرير المزدان بفالوظات العقيق والمبخور باللبان الهندي، وأمه تحفه بكل عناية مدعية أن فيه الملائكة، فلا تسمح له أن يقوم ولا أن ينزل إلى الأرض أو يمسه التراب، ولا يتحرك، لكنه، يرسل أوامره هنا وهناك فيأمر ويطاع، بكل أريحية من أصدقائه وأمه وأبيه، آخر غنج وإمرة كأنه يملك الدنيا وما فيها، وفي الصباح يحضر أصحاب المنهوبات إلينا ومع كل واحد منهم غرامة تدفع لـ(ابن الطهور) لنرجع لهم ما سرقنا، لا، وكنا أيضاً نعلق غصناً من شوك في حلق الباب العلوي لغرفة العريس، نسميه (ود أب تشة) وكان شركاً صغيراً يتدلى من أعلى الباب بحيث لا يعرفه ولا يراه الداخل غيرنا، وعندما يمسك ذاك الشرك طرفاً من ثوب أو عِمة أو طاقية، ونحن نرقُبُ فرحين، يكون جزاء من قُبض عليه أيضاً دفع حق الشرك المقلب هذا (ود أب تشة)، إضافة لغرامة عن رد ممتلكاته المسروقة تلك، فيدفعون وهم في غاية السرور والحبور، مباركة للعريس ومعاودة له ومشاركة له بتلك الملاليم، أم قرشين الفريني، والتعريفة وأب خمسة، والريال والقرش الأبيض.. هذه سرقتنا يا بُني.. النساء يا بني عندنا حريم، وحرمات، نتقيهن في الطرقات والملمات، ولا نتخذهن صديقاً أو رفيقاً، نستحي من النظر إليهن جهرة، وإكثاراً، ونتقي الحديث إليهن مجاهرة، وهن عندنا طهر وتقديس، لا أعرف يا بني، كيف ومتى وأين يمارس كبارنا الحب والعشق، ولكنهم يتزاوجون، لم نر فيهم من تسكع عاشقاً أو من تغنى جهرة أو ذكر اسم امرأة في المجالس خيراً أو شراً، والمجاهرة بالعشق كانت عيباً يندي منه الجبين، ويهين الفاعلين، وكان الحب على أقله وأخفاه، حباً صادقاً لا تشوبه رذيلة أو لا يدنسه عار، وكانت تقدسُ من خلاله مقانع الحريم، وحرمات الناس، والعيب كل العيب والمصيبة الكبرى يا بني، أن تقوى على نطق كلمة إني أحبك لفتاة، مهما بلغ بك الفجور والفوضى وقلة الأدب والسفه، وكانت أصداء حبنا تحملها للحبيب، الهمسات الواجفة المحبوسة التي تميتنا خجلاً وحياء، والوصلُ بين العاشقين يا بني، كان وجيباً مهموساً مدسوساً، تحسه القلوب في ارتعاشات الأيادي الطاهرة، وسنا العيون الناظرة طهراً وعفافاً ورحمة، وكنا لا نشبع أشواق أنفسنا إلا دبيباً وخلسة بين البيوت والحارات والأزقة، خفية واتقاءً لأعين الناس، وكانت ترضينا نظرة من حبيب، أو جملة واجفة وتحية عجلى وبسمة رضية من طرف هسير، وكنا لا نستطيع أن نملأ أعيننا منهن حياءً ولا نحلم أن نهمس إليهن بما في قلوبنا الصغيرة حباً وعشقاً، وكنا نُخرِّجُ أشواقنا تلك في حفلات السهار (حفلات الزواج ) بالدوبيت والأغنيات الرامزة حباً والمترعة رضا والمعبأة بالأماني الطيبات، يعبر عنها الصبية بالحدب لرشق السياط، وإدماء الأصابع، رسائل للحبيب حتى يرضى، وكنا ننعم بأغاني السباتة، وأصوات البنات التي تشد القلوب شداً وتؤزها أزاً، تعبئ الجنان بالإمتاع والبهاء حتى أنصاف الليالي يحيطنا الطهر والعفاف، لم نخدش حياءً ولم نجرح قلباً، ولم نخض في عروض الآخرين. وابني يزداد إصغاءً، وحينما كنا صغاراً يا بُني، كنا نسكن وسط المزارع (البلدات)، حينما كان أبي يملك كنتيناً (دكاناً) صغيراً مترحلاً يبيع منه لفرقان الرُحّل الذين يأتوننا للقيط القطن، وحصاد الذرة وسكب القصب وتشوينه، كنا نسكن وسط حواشات العيش، والقصب بعد أن يتعدى مراحل اللتيب، وتبدأ الحِملة والشرايا، في حوامل قناديل الذرة، الصفراء وود الفحل، والفيتريت، في التدلي للقطاف، كنا صغاراً تتجاوزنا أغصان القصب، وتدسنا شجيرات اللوبيا، أنا وجروتي وصديقتي الصغيرة، براقة، تغمرنا جداول أب ستة، وأب عشرين، والتقانت الجزلى بخرير المياه الواردة من الترع المصحوبة بالطمي ورائحة الدعاش عند ملامسة أنسام الصباح وأنصاف الليل الهادئ الوديع، كنا نسكن هناك ولا شاغل عندنا غير أنا نأكل ما تجود به الطبيعة حولنا، وما تكفلنا به التقاوى، وشيران المزارع من تبشٍ ومليص وما يجود به الزرع من قصب وعنكوليب ومليل وقناديل للشواء، وما يهبنا الله من ضروع معيزنا وشويهاتنا التي لا تعرف ربط الحبال، وأسوار الحيطان المنيعة، فهي ترعى حول مراقدنا، تلد وتحلب وتسقي وتكسي وتبني أحياناً من أصوافها، وترتع مع بهمها الوديع المتقافز فرحاً بالنهار والضاجع ملء عينيه في أحضان شجيرات اللبلب والنْورُ والسوريب. وابني يزداد دهشاً، لا يا بني، بل لا همّ لنا غير أنا ننام ونصحو لنطارد جرائنا براقة وأخواتها بين سرابات القطن وأغصان الذرة التي تموج مع هيجاء النسائم عند الصباح، حتى نتعب، ونمسي لنرقد سوياً أحياناً على سرير واحد، مع قططنا وأرانب الخلاء الحالمة الجميلة، نحضنها حتى نصحو لنلعب ثانية، كنا يا بني لا نملك (واتساب)، أو (سكايب)، ولا ترجُ عقولنا الـ(مس كولات)، وأجهزة النوكيا والسامسونغ، وكان كل ما يملك أبي، من تقنية، رادي أبو ودعة، معلق على رف من أعواد مركوزة على سقف بيتنا الضعيف يسمع فيه ما يجيء من أخبار البقعة (أم درمان) ويسمع فيه أغاني (القمر بوبا)، و(يا طير يا طاير)، و(السمسمة القضارف)، و(يا راحلين إلى منىً بغيابي، هيجتموا يوم الرحيل فؤادي).

(أرشيف الكاتب)