مقالات متنوعة

عبد المنعم مختار : حكاية واقعية بطعم الفنتازيا


(سوزان) حسناء تتكئ على وجه القمر فتسلب منه ذلك الحسن المتلالئ ابتسامتها الحلوة الصافية تتمدد حول الرهق فتحيله الى عذوبة تتغلغل في المكان والزمان .. في عينيها وهج يتناثر ويغسل صفاء وجهها نوراً يشع بالبهاء.. ولدت (سوزان) وفي فمها ملعقة ذهب .. ومشت على أكف الدلال والغنج حيث تعيش في شقة مطلة على النيل .. تمتلئ بالحشم والخدم .. وبين مروج ازهارها الجميلة طفقت تمرح وتتقافز وتستقبل الحياة بإلفة وحميمية .. وبين ترف أهلها وبرجوازية الامكنة رسمت لنفسها طريق لا تهزمه الظروف ولا يعتريه الخوف .. فبدأ جمالها مغسولاً بماء الورد وعطر الصندل .. وأضافت إلى ذلك ترحاب وبشاشة تغمران به أهل الحي الذي تسكنه فاحبها الجميع عندما تطل عليهم مشرقة بالامنيات .. تداعبهم بإلفة تعرف كل أهل الحي فرداً فرداً تطوف عليهم مثل غيمة رطبة .. تغدق عليهم بالتحنان وزخات المطر .. وعلى عكس من ذلك كان أهلها في أبراجهم العاجية يدوسون على الخواطر الجريحة ويتعاملون مع ذلك الحي كأنهم صراصير تزحف مع المواجع تستجدي الفتات .. وكثيراً ما يتحدثون مع ابنتهم المدللة محذرين أن لا تنزل لمستوى القاع . فكانت تقابل ذلك باستياء غريب لانها تدرك أن هؤلاء البسطاء يملكون قلوباً غنية بالمشاعر النبيلة ومترفة بالود .. وتعتبر نفسها جزءاً من تركيبة هؤلاء .. تعيش داخل انفعالاتهم تتماهى مع افراحهم وتتصالح مع أحزانهم .. في كثير من الاحيان تحسدهم على قلوبهم النقية وضحكتهم التي تخرج من اعماقهم وهي حبلى بالحبور وزهو النفس الكريمة .. (صابر) شاب مثقف يدرك جيداً.. أن هذه الحياة لا تستحق أن نقطب خلالها وجوهنا .. أو نسودها (بتكشيرة) قائمة لذلك فهو يطلق مشروع البشاشة والترحاب كانت (سوزان) تلاطفه قليلاً .. وتحادثه بود مما شجعه أن يتجاسر ويتقدم لخطبتها . ولكن أهلها قابلوا ذلك بسخرية لاذعة وهم يعيدون قصة (أبو درداق مع القمرة) الامر الذي أوشك أن يدخل (صابر) في دوامة الجنون لولا وقوف (سوزان) معه وتطييب خاطره قائلة (لو كان الامر بيدي لاخترتك أنت .. لانني أدرك جيداً أن قلبك عامر بالحب ولا يحتمل هذه القسوة) فردت إليه هذه الكلمات بعض عقله واحدثت التوازن بداخله.
هذه الحادثة جعلت سوزان تعيد حساباتها جيداً فقد تحول الامر إلى مصير حتمي هي لم تحب (صابر) ولكنها ترفض مصادرة مشاعرها بهذه الطريقة المتعسفة .. هذه التداعيات جعلتها قريبة من سكان الحي البسطاء تشاطرهم الاحزان .. وتتقاسم معهم الغلب .. تذورهم عندما تعلم أن قلبها تيبس من حياة كلاسيكية جافة ليس فيها مكان للحب والإلفة.
وذات مساء حزين خرجت (سوزان) بعدما رسمت على سكان الحي نضرة مشرقة غلفتها بابتسامة زاهية .. كانت تحمل بداخلها شحنة شجن غير مرئية .. أسرعت خطاويها ودفنت أشرعة العودة على مشارف الحي .. وبينما هي تجتاز الاسفلت الضيق صدمتها عربة مسرعة وتركتها تكابد بين الحياة والموت … وأسرع أهل الحي لنجدتها كأنهم يدركون أنها آخر الرحيق .. وبداية النهايات ونهاية البدايات .. وفي عجالة ادخلوها غرفة الانعاش وجلسوا بالخارج ينتظرون العشم ويتوسلون للمولى عز وجل أن يعيد إليهم سوزان بعافيتها كانت تمنحهم قدرة على الحياة وتشكل جزءاً من احلامهم المخضرة .. وفي لحظة تذكروا أنها كانت تمنحهم الفرح .. وعندما حضر أهلها وجدوها محاطة بالعيون الوجلة والقلوب المتوترة واحسوا بأنها أصبحت ملك هؤلاء .. (سوزان) ظلت لأيام داخل غرفة الانعاش في العناية المركزة تحتضر .. والمستشفى ضاقت بالزائرين .. لم يبارحوا المكان .. يبكون في صمت خوفاً من مغادرة فرحة كانت تظللهم ساعتها ادرك (صابر) أن قلبها لا يمكن أن يحوز عليه شخص واحد فهو يسع الجميع … ولأول مرة يشعر أهلها بذلك الحب في عيون الجميع .. ومرت الايام بطيئة وبعدها خرجت (سوزان) تلوح للناس بابتسامة بطعم العافية والإلفة.
عبد المنعم مختار – (الكتابة على قشر البرتقال – صحيفة ألوان)