الطيب مصطفى

بين الشيخ الترابي وعمار عجول


عمار عبد الرحمن المعروف في قناة الجزيرة الفضائية، التي اختطفته منا، بعمار عجول كان شاباً صغيراً أيام كنت مديراً للتلفزيون، وكنت أعهد إليه بمراجعة نشرات أخبار اليوم السابق في التلفزيون وموافاتي بتقرير يومي عن الأخطاء اللغوية للمذيعين، حيث لم نكن نتسامح مع أي خطأ، وقد وقعت الغرامة على نفسي يوم افتتاح المحطة الأرضية (الثانية) للبث الفضائي في منطقة الفتيحاب جراء خطأ أو أخطاء في الكلمة التي ألقيتها في تلك المناسبة أمام الشهيد الزبير محمد صالح، وأنتهز هذه المناسبة لأحيي المذيع الهرم الدكتور عمر الجزلي الذي كُرم من الدولة بعد تأخير طويل، فقد كان مختلفاً ومتميزاً، وكان يحرص على ألا يخطئ ويحضر قبل وقت كافٍ من وقت النشرة حرصاً على مكانته بل كان يرفض إذاعة الإعلانات التجارية بصوته بالرغم أن ذلك يتم نظير أجر وذلك حرصاً على سمعته.

عمار عجول كتب الخواطر الذكية التالية حول الحملة التي شنها مبغضو الشيخ الترابي على بعض فتاواه مبيناً ومثبتاً أننا اليوم أكثر ضيقاً بالرأي الآخر مما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل نتعظ ونراجع أنفسنا انفعالاً بما كتب عمار وغيره؟

بين جرأة الترابي وجرأة الصحابة

نعم، ربما كان الترابي أكثر جرأة مما يلزم ولستُ في معرض الحكم على فتاواه وآرائه أو الدفاع عنها فأنا إعلامي فقط أعرض خواطر حول الأفكار الجريئة لرجل أثار جدلاً كبيراً لأكثر من نصف قرن من الزمان.

أقول إنه بالرغم من أن الترابي لا يبلغ مقام الصحابة رضوان الله عليهم فإن الجرأة في مسيرة الدعوة الإسلامية منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قديمة وليست جديدة ، وليس أدل على ذلك من تفسير الصحابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة).

تصور مدى جرأة الصحابي الذي يسمع هذا الأمر ثم يصلي العصر قبل بلوغه مضارب بني قريظة ، إنه الفقه الواسع والفهم للمقاصد بلا قدح أو حرج على من يأتي هذا التصرف.

لا أظن أن الناس في العهود الأولى من الإسلام رغم خلافاتهم تسرعوا في الحكم على مخالفيهم بالضلال

فقد اختلف الصحابة في قتال مانعي الزكاة فأصر أبو بكر الصديق على ذلك فكان جريئاً ورفض حجة عمر بن الخطاب بعدم جواز حرب من قال لا إله إلا الله.

بعد ذلك جاء عمر بن الخطاب ليجمع الناس على إمام واحد في التراويح فكان جريئاً بهذا الفعل الذي لو فعله غيره في زماننا هذا لقامت الدنيا ولم تقعد .

أما عثمان بن عفان رضي الله عنه فكان جريئاً في جمع القرآن في مصحف واحد، وهو أمر نتخيله الآن من البديهيات، ولكن لم يكن كذلك فالرجل كان مواجهاً بأنه أحدث ما لم يكن حادثاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغم ذلك لم يتهمه أو يجرمه أحد .

ذلك كله ما يدعوني إلى أن أتوقع من الناس عند الحكم على أفكار الفقهاء والمفكرين أن نخرج قليلاً من ضيق الزمان والمكان وأقوال السابقين إلى ما هو أرحب وأفسح وأكبر.

تصور أن شيخ الإسلام ابن تيمية سُجن لأنه أنكر التوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك الزمان خاصمه العلماء والخلفاء قبل أن ينتصر عليهم.

أذكر جيداً في فترة الديموقراطية في السودان ما بين عامي 85 و89 كان هنالك جدل عن كيفية حكم الجنوب السوداني، وكان غير وارد أن يتصور شخص إسلامي إمكانية أن يُعطى الجنوب حق أن يختار قوانينه، ففاجأ الترابي الناس وقال: يجب أن يُترك الجنوب ليختار ما يناسبه من قوانين، حينها قامت الدنيا في السودان وما قعدت كيف لهذا الرجل أن يسمح بإبعاد الشريعة من بقعة من الأرض، أياً كانت، خاضعة لسلطان المسلمين؟ مرت الأيام ليُسلم الجميع فيما بعد بما قال الترابي بل وأكثر.

أقول إن على الناس وهم يتناولون القضايا التي أثارها الترابي أن يتريثوا أو أن يفكروا ملياً قبل أن يتعرضوا له بالنقد سيما وأن كثيراً من ذلك ناشئ عن تغابن أفرزته الخصومة السياسية وليس النظر الفكري المجرد من الهوى.

على سبيل المثال هناك كثير من الناس يعتقدون أن الترابي أنكر عذاب القبر، لكنك لو أمعنت النظر في رؤية الرجل للأمر ستجد أنه ينكر التصور المنتشر في ذهن العامة عن عذاب القبر وهو يقر بالحياة البرزخية، وعموماً كما قلت فأنا لست مؤهلاً للحكم على آرائه التي تستوجب تفرغاً أكاديمياً لدراستها لكنني أرى أن التسرع في أمور كبيرة كهذه لا يجوز فالرجل رضينا أم أبينا أثر في مسيرة الحركات الإسلامية المعاصرة، ويكفي التدليل على ذلك ما يقوله عنه الكبار مثل القرضاوي والغنوشي وغيرهما.

رحمه الله وأحسن إليه.