حسين خوجلي

كنتُ وأخواتها


> كنتُ حين أسمع بالموت في دارفور أطير غاضباً كالملدوغ، ثم جاء زمان بعده أصبحت أصاب بالحزن ومغالبة الدمع.. ثم جاء زمان أصبحت أصاب بالغُلب والمهانة.. ثم جاء زمان أصبحت أحس فيه بالوجع الصامت.. ثم جاء زمان أصبحت أحس فيه بالأسى التجريدي.. وأخشى أن يظللني فيه زمان أحس فيه بأن الموت المجاني هناك صار خبراً في صحيفة لملء الفراغ مثل الإعلانات المبوّبة وتهنئة الزملاء بنجاح ابنة أو إطلالة مولود جديد.
> كنتُ أقرأ للكُتّاب المصريين لإجادتهم التوصيف.. وكنتُ أقرأ للكُتّاب اللبنانيين لإجادتهم للغة التمرد.. وكنتُ أقرأ للكُتّاب السعوديين لعبقريتهم في كتابة النص الخائف الذكي.. وكنتُ أقرأ للمغاربة والتوانسة لمقدرتهم على كتابة النص التوليدي والجدلي.. ومازلتُ أقرأ للسودانيين في الذي أصدروه على حياء ومسغبة وللذي لم يكتبوه خوف القبيلة وشيخ القبيلة وسطوة الجغرافيا والتاريخ.
> كنتُ قديماً أتكبد المشاق لزيارة صديق قديم في عيد جديد.. فلما أصابنا رهق منتصف العمر والمسافات تركت الرهق للموبايل وممارسة فن إستدعاء الذكريات.
> كنتُ أحلم بدار للصحافيين نلتقي فيه بأهل الصحافة الحقيقيين وليس حملة البطاقات.. وجاء زمان تأكدت فيه أنني لن أجد فيها من أعرفهم ولا حتى ثريا من النيون المضيئة ولا قهوة تُعد على عجل.
تُرى لو عاد ذلك الزمان، فهل نعود نحن كما كُنا؟.. مع تحياتي للجنة الحالية التي تصرُخ في شعاب مكة (يوماتي) أنه مازال في الوادي بعض ماءٍ وأسلٍ وآثار قافلة.
> كنتُ وما زلت أقدر للسيد الصادق المهدي والراحل الشيخ الترابي والراحل نقد هذه المقدرة العرفانية في حوار الصحافيين واحتمالهم ليل نهار ومن كل المدارس.. وكنتُ أعجب لهذا التباعد ما بين الميرغني والصحافة، فالرجل فيه سعة وفيه تجربة وله مفاتيح وله ما يقوله.. إنها جملة في مربع العتاب ولن يلح أحد لمطالبته بكسر صمته وغموضه وحتى إن أراد فلم يبقى فيه ولا في الصحافة ما يكفي لبدايات جديدة.
> كنتُ شديد الولع بالشعر للخليج ولندن والسعودية للإختلاء بالنفس والأمكنة، فصرتُ الآن شديد الولع بالسفر داخل الخرطوم وقيعان النفس ولملمة الأنابيش والأوراق القديمة وإعداد المرافعة في يوم المرافقة للإجابة على السؤال الصعب.. تُرى ماذا أضفتم للبشرية يا أدعياء الأمة الشاهدة؟!
> كنتُ قديماً أبكي على الورق المكتوب، فصرتُ الآن أبكي على اللبن المسكوب اللبن المسكوب في السياسة والحالة الاجتماعية وسُبل كسب العيش، إنني أبكي على الذين وثقنا فيهم فاكتشفنا أنهم والتجربة فنحن قد أضعنا الأرض وسممنا السماء التي كانت تطوف فوقها النسور والنوارس بلا إستئذان من أحد.
> كنتُ وما زلتُ أحتفي ببرقيات الأصدقاء خاصة التي تأتي من ضفاف الأدب والصدق وشغف السويداء بالإعتراف وجاذبية البوح.
(نقطة) صغيرة في شيمة الزمان غرقانة
سارحة مع العرق تتشاقى وسط أخوانا
ضامة حنينا للنبع السما وعكرانه
والشوق لسكون بحر الله في أحضانا..
> كنتُ كالذين سبقوني، أشتاقُ للمعرفة فلا أجد لها من ضفاف فأظل جاهلاً.. وأشتاقُ للحب فلا أجد له من كفاية فأظل ظامئاً.. وأشتاقُ للثروة فلا أجد لها من سبيل فأظل منتظراً.. وكنتُ أشتاقُ المجد لأمتي فلا أجد لها من طريق غير الأشواك فأبكيها شوقاً.
وكنتُ أشتاقُ للتجاريب والنصيحة فأجد أن العقل قد أمتلأ بخُلب الأماني فأعاود الاحتمال.. وكنتُ أتلمس البدايات الحبيبة بلسان فيه لثغة وبفؤاد فيه خلو وبخطوات فطيرة العثرات فأجد أن تاج الشباب قد تقضّى.. وكنتُ حينها حين أبلغ هذا المبلغ من الرصيد المهيض الجناح في عاصفات الليل ألتجيء للقرآن وحكايات الصالحين ونعبث في الصباح مع أهل الدنيا في السياسة والصحافة والفنون والسخريات السخرية وهي محض دمعات رغم جلجلة الضحكات تخفي تدابير الرحيل الذي لا نخطط له.
> كنتُ خوفاً على الزمن لا أقرأ رواية إلا إذا حدّثني عنها عارف أو ملأت أوجه الصحف بالنقد والإهتمام.. ولكنني لا أبالي فيما أضيعه من ساعات جليلة في الشعر، فالشعر عند الشاعر المجيد لؤلؤ فاخر يخرج من صدق أفخر، لأنه يحيط بخلاً بالثمين، ولذلك فرحت جداً حين احتفى الخُلّص من النخبة بلقائنا مع الشاعر عالم عباس بقناة (أم درمان) الفضائية وبيانه يصيح في الناس
يا أيها الذين آمنوا بالشعر موقفاً وطأطأوا رؤوسهم تيقناً بمجده الجبّار.. ثم حين بايعوه أقسموا بجهد عزمهم يعززونه وينصرونه ويعبرون دونه مخاطر الريادة.
يا أيها الذين آمنوا بالشعر منقذاً وصبروا واصطبروا وعانقوا الحروق كالرماح يشرعونها والأرض زلزلت زلزالها.. وأخرجت أثقالها وهم تراسهم طروسهم كما الجذور درعهم مكامن الإرادة.
> كنتُ أقول للناس الاقتصاد في بلادنا الخريف، إذا عرفنا أن نتعامل مع الخريف أو عرف هو أن يترفّق بنا، كل السودان الحبيب هذه الأيام مترع بالمياه والندى الدائم والأرض. الذين لا يعرفون الزراعة يخوفوننا من الغرق.. والذين يعرفونها وهم قليل غاية عزهم الدين والمدّخر وزواج الأولاد في (الدرت) وأفندية كليات الزراعة واتحادات المزارعين يخافون على عربات الدفع الرباعي من الوحل.
ويذهب الخريف ويبقى الإدعاء والتقارير الجُوف والجُوع وانتظار المجهول.. والخوف..
كان الإمام الشعبي حين يسأل عن ثمراته في العلم والعمل بعبارة من أين لك هذا؟ كان عليه الرضوان يقول: ببذل الاعتماد والسير في البلاد وصبر كصبر الجماد وبكور كبكور الغراب..
فماذا نفعل نحن مع شباب لا يعتمدون ولا يسافرون ولا يجالدون ويسهرون حتى الصباح مع الشبكة العنكبوتية.. ليس لصاحب السهر والمعابثة إلا الحمى والفقر والذبول.