رأي ومقالاتمقالات متنوعة

د. مصطفى عثمان إسماعيل : مفكرة الأسبوع .. في رحاب ذكرى رحيل الشهيد المشير “الزبير محمد صالح”


الحلقة التاسعة
(مواقف ومشاهد) (4)
زيارة القاهرة بعد توتر وانقطاع

توقفنا في الحلقة الماضية في قصر “القبة” وقد تهيأنا للدخول على الرئيس “مبارك” بعد أن عالجنا موضوع الراحل د. “الترابي” وعدم وجوده ضمن الوفد، وقبل ذلك معالجة القهوة التي أدلقت في بدلتي الوحيدة.
كما ذكرنا في المقال السابق كان الرئيس “مبارك” وأظنه لا يزال يُكِن البغض وعدم الارتياح لشخص الشيخ “حسن الترابي” لأسباب قد تكون معلومة للجميع، وهي ليست سراً أو خافية وألخصها في قيادة “الترابي” للتيار الإسلامي في السودان وهو تيار قوي وقيادي وله تأثير كبير في المنطقة العربية بما فيها مصر، التي تضم جماعة الإخوان المسلمين المحظورة آنذاك. ولا يخفى على أحد اختلاف الرئيس “مبارك” مع التيارات الإسلامية ومن ينتمون إليها وإيمانه المطلق بالعلمانية كمدرسة تضع حدوداً بين الفكر السياسي وممارسته في الأنظمة السياسية والحكومات والفكر الديني وممارسته كشعائر في حدود المؤسسات الدينية المختلفة، وأذكر عند استشهاد الراحل “الزبير” اتصل هاتفياً بالرئيس “البشير” معزياً، وبينما الرئيس يشرح له الحادث ذكر له أن المطار “مطار ترابي” يقصد غير مسفلت فإذا بالرئيس “مبارك” يكرر بأعلى صوت “ترابي”؟ فهم الرئيس “البشير” انزعاج الرئيس “مبارك” وشرح له المقصود أن أرضية المطار غير مسفلتة.
الرئيس “مبارك” شخصية غير معقدة، بسيط وتلقائي لكنه عنيد، مشكلته الأساسية أن لديه اعتقاداً أن أمريكا إذا أرادت فعل شيء فستفعله ولا توجد قوة تستطيع منعها. مرة بعثني الرئيس “البشير” لمقابلته وكانت العلاقات فاترة فاستقبلني ومعه اللواء “عمر سليمان”- رحمه الله- وبدأ يحدثني بشدة (أنتم فعلتم كذا وفعلتم كذا)، وعندما وجدته شديد الغضب أردت أن أكسر حدة الغضب وألّا أدخل معه في جدال لن يفيدني كثيراً، قلت له: (يا ريس أنت عندك ست عشرة سنة في الحكم وأنحنا ما زلنا في المرحلة الابتدائية)، فنثر أصابع يديه نحوي وهو يقول: (إش إش) وهو يضحك وينظر لـ”عمر سليمان” وتغير الجو تماماً، وأصبح ودوداً ونسي كل شيء. قلت للواء “عمر سليمان”: (ماذا يقصد الرئيس بكلمة “إش إش”؟) ضحك اللواء “عمر رحمه الله وقال لي: (يقول لك لا تسحرني).
ومن نوادره أيضاً، أجهزته الأمنية رفعت إليه أن الأستاذ “علي عثمان محمد طه” هو الذي دبر حادثة أديس أبابا، وكان يخلط بين “علي عثمان” و”مصطفى عثمان”. كان كلما أدخل عليه زائراً يصيح في وجهي بلهجته المصرية وهو يسلم علي: (يا كتال الكتلة)، وكنت أضحك وأمرر الموضوع دون أن أعلق، فهو كان يعدّني المقصود، ويبدو أن الأجهزة صححته أو أفهمته أنني لست المقصود، وفي زيارة لي برفقة الرئيس “البشير” صاح فيَّ: (مش إنت).. ثم التفت إلى الرئيس “البشير” قائلاً: (كلما أقول له “يا كتال الكتلة” يضحك وأنا أقول هو بيضحك ليه؟ ما كنتش عارف إنه مش هو).
نعود مرة أخرى وقد تهيأنا مع الشهيد “الزبير” للدخول على الرئيس “مبارك”، وبمجرد دخولنا بدأ في طريقة عفوية اللوم للشهيد “الزبير” في عدم زيارة مصر لمدة طويلة، فما كان من الشهيد “الزبير” وبذات العفوية وهو يبتسم ويشير إليَّ بأصبعه قائلاً” (والله يا ريس كلو من الإخوان المسلمين ديل هم الذين منعوني من الحضور لمصر). وتستمر المسرحية ينهض الرئيس “مبارك” واقفاً قائلاً: (كده والله ما أنت ماشي، جهزوا الطائرة يروح الإسكندرية ويقضي فيها أسبوع أسبوعين)، حاولت أن أهمس في أذن الشهيد “الزبير” بأن العلاقات متوترة ولا تسمح بهذا والخرطوم لن تظن بنا خيراً.. الإعلام المصري يهاجم ونحن في إجازة في مصر. رحمه الله رحمة واسعة ضغط على رجلي برجله وهو يبتسم ويقول: (اسكت أنا عارف مشكلتك سأشتري لك بدلة وملابس ولا يهمك) إشارة إلى أنني أتيت ببدلة وحيدة على أساس أن الزيارة ساعتين فقط. جُهِزت الطائرة وتحت إصرار الرئيس “مبارك” وتوجيهاته المشددة تحركنا إلى الإسكندرية وكأنه لا توجد أية مشكلة بين البلدين.
وفي الإسكندرية استقبلنا بحفاوة شديدة محافظها آنذاك اللواء “محمد عبد السلام”. نزلنا في قصر (لصفا) بالإسكندرية ورتب المحافظ برنامج زيارات حافل للنائب الأول لآثار الإسكندرية الرومانية والإسلامية والفرنسية واستمررنا على ذلك ثلاثة أيام. في اليوم الرابع ذهبت إلى الفيلا التي يقيم فيها وجدته بلباسه السوداني والقهوة أمامه قلت له: (سعادتك ناس الخرطوم ما بظنوا فينا خير، هم في شنو ونحن في شنو؟). قال لي: (يا أخي أنت إذا ربنا ريحك ما عاوز تستريح؟)، وطلب الرئيس “مبارك” في التلفون ليستأذنه في العودة للخرطوم. طلبني فوجدته يضحك ويقول لي: (قلت للرئيس “مبارك” أنحنا عقابنا أعوج نرجع ونجيكم مرة تانية فصاح فيَّ يا “زبير” ارتاحوا شوية من الانتو فيه ده، وأصر على عدم السفر)، بعد يومين عاودته مرة أخرى وألححت عليه ليتصل مرة أخرى بالرئيس “مبارك” ويشكره ويستأذنه في العودة إلى الخرطوم وقد فعل ذلك. عدنا للخرطوم ومنذ تلك الزيارة بدأ جبل الجليد الذي كان مخيماً على العلاقات بين البلدين في الذوبان.
رافقته في العديد من الزيارات للمغرب حيث اللقاء بالملك الراحل “الحسن الثاني” وهو رجل مثقف له إلمام بمشاكل المنطقة. ورافقته لموريتانيا للقاء الرئيس الأسبق “ولد الطايع”، وأذكر ونحن في لقائنا معه أُعلِنَ بأن يوم غد أول أيام عيد الفطر المبارك. هكذا كان الراحل المقيم “الزبير” رجلاً سمحاً على فطرته دون تعقيد، حاضر البديهة، سريع التجاوب مع الآخرين بطريقة تنبع من القلب إلى القلب. صحبته مرة في زيارة داخلية لمحافظة مروي بالولاية الشمالية وكانت محافظة عصية، عُيِّن لها محافظ جديد هو والي نهر النيل الحالي الأخ “محمد حامد ود البلة”، وقد تفاعل معه أهل مروي وأحبوه، بل ظلوا يرددون في لقاءاتهم الجماهيرية عبارة (ود البلة يحفظك الله). في تلك الزيارة وفي لقاء جماهيري ونحن جلوس ردد المواطنون شعارهم المحبب (ود البلة يحفظك الله)، فإذا بالراحل- عليه رحمة الله- ينهض من كرسيه وينزع المايكروفون ويصيح في الجماهير: (قولوا الله أكبر، الله أكبر، “ود البلة” كمان نفيلتو شنو لامن تقولوا “ود البلة”، الإنقاذ منعت الهتاف لا “عمر البشير” ولا “الزبير” تكبروا ربنا سبحانه وتعالى)، حدث هرج ومرج وصمت حتى أنقذ الموقف المحافظ النشط “ود البلة” بأن أخذ المايكروفون وبدأ يهتف (الله أكبر) وهتفت الجماهير خلفه. عاد الشهيد وجلس على كرسيه همست في أذنه: (يا سعادتك ناس مروي ديل لا بيعجبهم العجب ولا الصيام في رجب ما دام رضوا بـ”ود البلة” ما تخليهم يعبروا بالطريقة التي يرونها). رافقته في زيارة لوادي حلفا– كانت العلاقات متوترة مع مصر للحد الذي أوقفت فيه سفريات البواخر النيلية بين أسوان ووادي حلفا، أهالي حلفا لا يتحملون إيقاف الباخرة لأسوان مهما أوجدت لهم البديل، وفي أول لقاء جماهيري في حلفا بدأ الراحل يخطب فيهم ونحن جلوس. لاحظ الراحل أن هناك هتافاً لا يتجاوب مع خطابه فأشار إليَّ بالحضور ثم سألني بماذا يهتفون، أجبته يقولون “الباخرة يا زبير” يطالبون بعودة الباخرة، فنظر إليهم مبتسماً قائلاً: (الباخرة كمان بتجي) وأنهى خطابه. كنت معه مرة في زيارة لمحلية القولد، تحركنا بالعربات لم يكن هنالك شارع أسفلت، كان الوالي هو الأخ “بدوي الخير إدريس” وهو رجل خلوق ولا تمل حديثه، بينما العربات تسير خلف بعضها إذا بالعربة الأمامية تقع في حفرة فتصطدم كل العربات في بعضها كانت عربتنا هي الثانية أو الثالثة فيها بجانب الشهيد “الزبير” الوالي “بدوي الخير” وشخصي، جرح من جرح ومات من مات بمن في ذلك سائق عربتنا، بصعوبة قام حرس الشهيد “الزبير” بكسر باب عربتنا وأخرجنا واحداً تلو الآخر. كانت الجماهير تنتظرنا في لقاء جماهيري بمنطقة البكري. فكرنا في إلغائه فإذا بالراحل “الزبير” يتصدى لنا بقوة تؤكد إيمانه بالقضاء واحترام المواعيد والتصرف بحكمة عند المواقف الصعبة وهو العسكري المحنك المجرب والذي واجهته كثير من هذه المحن، فقال بكلمات حاسمة: (المجروح والميت يأخذوهم للمستشفى والبرنامج يستمر كما هو دون تغيير ببقية الوفد). التفت إليَّ الأخ “بدوي الخير إدريس” قائلاً: (نعمل شنو يا مصطفى العساكر ديل أصلاً متعودين على الموت) في إشارة للشهيد “الزبير”. واصلنا البرنامج دون تغيير.
هذه بضع من المواقف التي شهدتها مع الراحل المقيم الشهيد “الزبير محمد صالح”، وما أكثرها، تظل ذكرى خالدة لهذا الرجل الأمة، نبراساً نهتدي ونتأسى بها في مسيرتنا إلى الله عزّ وجلّ، وفي مسعانا لبناء هذا الوطن. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

*وزير خارجية السودان الأسبق، أستاذ العلوم السياسية – جامعة أفريقيا العالمية
د. مصطفى عثمان إسماعيل (مفكرة الأسبوع – صحيفة المجهر السياسي)