منى ابوزيد

دورك في الطابور ..!


«ليس من شر أكبر من الفوضى!» .. سوفوكليس
* وقفت طويلاً بانتظار دوري في أحد صفوف دواوين الحكومة ـ بسبب امتلاء المقاعد ـ فهب شاب كان يجلس على المعقد المخصص لصاحب المعاملة، وعرض علي الجلوس بلطف، شكرته جداً، قبل أن أعتذر عن قبول عرضة لأن ذلك الكرسي مخصص ــ فقط ــ للعميل صاحب الملف، فالموظف المسئول يحتاج إجابات شخصية دقيقة لملء بيانات هامة، وعليه فلا يصح أن يجلس على ذلك الكرسي غيره، حتى وإن كان ذلك الغير سيدة استفز وقوفها الطويل شهامته السودانية..!
* جلس الشاب اللطيف مكرهاً، وبقيت واقفة ــ أفكر في أسباب بطء سير العمل ــ قبل أن يقودني التأمل في لوحة الواقفين والجالسين إلى إجابة منطقية، مفادها أن معظم الموظفين كانوا ينحون ملفات الجالسين جانباً، ثم ينهمكون في ملء ملفات مجهولة يضعها بعض الزملاء على مكاتبهم، بينما يجلس أصحابها للثرثرة واحتساء الشاي في مكاتب مسئولين أعلى درجة ..!
* كيف تعرف بأنك أمام موظف حكومي ؟! .. حينما تقف أمامه فيقطب في وجهك وكأنهم أيقظوه من النوم كي يطفئ حريقاً، فضلاً عن لغة الخطاب التي تنذر بسوء العاقبة، وعروض المماطلة والتسويف، وتنحية معاملات أصحاب السراط المستقيم ـــ من أمثالك ــ جانباً، والانشغال بمعاملات يجلس أصحابها للثرثرة واحتساء الشاي في مكتب السيد المدير ..!
* كيف تعرف بأنك تقف في طابور سوداني؟! .. الواقفون يتململون وكأنهم ذاهبون إلى المقصلة، الصفوف عشوائية، وهي أقرب إلى الجمهرة منها إلى الطوابير، الوجوه عابسة، ولغة الحوار تبدو عدائية قبل أن يعقبها في الغالب اندلاع شجارات مفاجئة لأسباب تافهة .. يحدث هذا في طوابير معاملاتنا الرسمية كل يوم، لذلك علينا أن لا نغضب عندما ينعتنا الآخرون بأننا «شعب عشوائي لا يحترم الطوابير»..!
* بينما تعمل طوابير شعوب العالم الأول بحكمة بوذا ـــ «أن تسافر جيداً خير من أن تصل» ـــ، في اليابان مثلاً، حتى الزلزال الأخير ــ الذي اعتبر الأكثر عنفاً خلال قرن من الزمان ــ لم يحدث تغييراً يذكر في صرامة الطوابير التي اشتهر بها شعبها .. وفي بريطانيا حينما أجروا بحثاً للتدليل على انخفاض معدلات الصبر في الطوابير، لم تذكر نتائجه شيئاً عن عدم الالتزام بالأولوية في الصفوف، بل دللت على نفاذ صبر البريطانيين بلجوء معظمهم إلى التسوق ليلاً، ودفع الفواتير عبر شبكة الانترنت..!
* وحينما خرج الرئيس الأمريكي أوباما يوماً لتناول شطيرة هامبورجر في مطعم شعبي، انشغلت صحف العالم بدلالة الحدث وتداعياته، بينما انشغل الإعلام العربي بوقوف فخامة الرئيس الأمريكي ـــ بنفسه ـــ في طابور هامبورجر..!
احترام الطوابير دلالة تحضر دامغة، والعلاقة بين دقة وانتظام الطابور وتطور المجتمعات طردية، لكن كيف نطالب بسيادة حكم الطابور إن كان الذي يخرق النظام ـــ في مجتمعنا ـــ هو المسئول نفسه!.. إذا أردنا أن تشيع فينا ثقافة احترام الطوابير، علينا أن نبدأ بفوضى السلطة التنفيذية..!
الحكومات ـــ على رأي رونالد ريجان ـــ لا تحل المشاكل بل تدعمها .. وقوف المسئولين في طوابير القوانين ـــ شأنهم شأن بقية الشعب! ـــ هو الذي يصنع حضارات الشعوب .. أليس كذلك ..؟!