تحقيقات وتقارير

أيام بن لادن في السودان وقائع وتفاصيل مثيرة (الحلقة الثالثة)


حينما كان صوت “كِشك” ينبعث من فيلا الرياض كانت زوجة بن لادن الرابعة قد طلبت الطلاق .. فرنسا تحذر وإدارة كلينتون تدرك أن الشخص الوحيد الممسك بكل الخيوط في الخرطوم رجل سبعيني ثائر يشبه الإمام الخُميني
من النيل إلى الجبل “الحلقة الثالثة”

عتبة أولى
التاكسي الأصفر الرابض بمطار الخرطوم في إحدى ليالي العام (1991) كان يتفرس في وجوه العابرين، ويرنو إلى شخصية مهمة قادمة من بيشاور، يهبط أسامة من سلم الطائرة بجسد نحيل ووجه ملتحٍ وشعر فاحم مسدل تحت العمامة، وعينين كحيلتين تنعقد فوقهما حواجب كثيفة، طوال ساعات الرحلة كان الرجل يتأمل الأرض من علو شاهق، وقلبه معلق بالسماء، فيبدو له النيل لامعاً مجدولا كالضفيرة، ويشعر كيف أنه سيرتاح أخيراً، بعيد حياة شكسبيرية حافلة بالإثارة، ينبغي الإشارة هنا إلى وجه الغرابة الأول في هذا المساء الخرطومي الموحش، لم يكن أحد ينتظره في صالة الوصول، أبداً، ولم تكن الشوارع كلها مضاءة من العتمة، ولا أحد في الأنحاء غير امرأة حُبلى جميلة باغتها المخاض، يقضي ضيفنا ليلته الأولى في غرفة باردة بفندق الهيلتون، محاطاً بالحفاوة والألق، مثل كل الأثرياء في العالم، فهو ينتمي لطبقتهم ولا يشبههم! إنه الآن في الـ(33) من عمره، شاب تقي وورع، يتسم بالصمت المهول، لكنه لم يكن يظن على الإطلاق، أنه سيقضي أعوامه الخمسة هنا وصوت العقيد يونس محمود يجلجل في المذياع، وأنه سيتعرض للقتل دونما مرة، وسيعتقل نقطة الضوء طويلاً بجانبه، وسيدمن التخفي، التخفي ببراعة تحديداً، وسوف يصبح في غضون عشرة أعوام الرجل الأكثر خطورة في العالم، والمطلوب رقم (واحد).

زخات مفاجئة

بعيد عام من وصول بن لادن، وبالتحديد في أغسطس (1992) هبط السفير الأمريكي دونالد بيتريسون مطار الخرطوم، كان يرتدي بدلة رمادية لامعة دون ربطة عنق، والمطر يبلل شعره الأبيض، وكانت الساعة تقترب من الثانية عشرة ليلاً، حيث أسلمت العاصمة شوارعها إلى ميقات حظر التجول، لم يتعجل دونالد الدفع بأوراق اعتماده، حتى يعيد ترتيب أوضاعه الخاصة، بما فيها منزله في شارع الجمهورية ونمط حياة زوجته وابنته الصغيرة، مهمته ستكون طويلة ومرهقة، خارج المنزل ترابط سيارة الـ(رولز رويس) العتيقة، ينسدل الليل بارداً وناعساً على كتف المدينة، هنالك شيء غير مريح حرمه من النوم، وهو يتطلع إلى الجدار الأملس الذي بدا كمرآة عمياء تتحرك فيها الأشباح، كل الرجال الذين يكرهون دولته هنا، على مقربة؛ بمن فيهم أسامة، وعلى رأس هذه الدولة شيخ سبعيني ثائر يستمد قوته الروحية من حياة الإسلام المُبكر.. إنه النسخة السنية من الإمام الخميني.

سيكون لقاء السفير الأول بالترابي مدهشاً، وسيبدو له كرجل ساخر، يفتر ثغره عن ابتسامات متقطعة، أو (زخات مفاجئة) كما يسميها بيترسون. في المساء يطلب ملف أسامة بن لادن، ويوصي بتقصي آثاره: (لابد أن نحيط علماً بتحركاته). بعد سنوات يكتب السفير مذكراته، ويفتخر أن قلقه كان مبرراً، وأن أسامة هو الذي مول عملية اغتيال حسني مبارك -لكنه للغرابة- سيبدي كثير ندم، كون دولته رفضت عرض الخرطوم، وقتئذٍ، بتسليمها بن لادن، كما يقول.

“أم علي” تطلب الطلاق

نعود إلى فيلا الرياض المضاءة، والتي يعلوها صهريج مياه أبيض، يدور كثير من الهمس في الطابق الأعلى، أسامة يتكوم فوق سجادة مرسوم عليها شكل الكعبة، ينبعث من ذات الغرفة صوت فارس المنابر الكفيف وقتها عبد الحميد كشك، قائد فرقة الحراسة المعروف بـ(أبو جندل) يتفقد الأبواب، ويلتقط خيط حوار قصير دار بين أسامة وزوجته الرابعة (أم علي) والتي تنحدر من منطقة مكة، كانت قد تجاوزت الثلاثين من عمرها ببضع سنوات، وبدأت تشعر أن الحياة مع مثل أسامة مهددة بالخطر، بخلاف أن زوجها يمضي سحابة يومه ما بين العمل والعبادة والضيوف، وهي لا تحظى به إلا قليلاً، المؤكد أنها كانت تشعر بالظلم والحرمان، ويضيرها كثيراً عدم الأمان بعيداً عن الأهل، ستهب عاصفة بينهما بعد قليل، ويتطور النقاش إلى نقطة اللاعودة، فتطلب أم علي الطلاق، يحاول أسامة طمأنتها دون فائدة، كان مصير الأبناء الثلاثة أيضاً معلقاً في تلك اللحظة، في ما بعد سوف تحصل هذه السيدة المنقبة على الطلاق وتغادر الخرطوم.

ضلوع أمريكا

سيموت مقتولاً في باكستان، وستلقى جثته في البحر ليلاً من على متن حاملة طائرات، كل ذلك يمكن أن يصدق، ولكن لا يمكن أن يكون بطولياً أبداً، لأن رواية أن أسامة كان أعزل حين اقتحمت القوات الخاصة منزله في أبوت آباد(2011)، بينما هو يحتضر إثر إصابته بعيار ناري في رأسه، لن تروي الشغف الأمريكي المفتون بالبطولات، لقد دارت معركة بالفعل، لكنها ليست بالضرورة مثل معركة حي الرياض، والتي استمرت لدقائق وأسر فيها قائد الخلية عبد الله الخليفي، المثير في الأمر أن أسامة في حوار صحيفة الإنقاذ يلمح إلى ضلوع أمريكا في محاولة اغتياله بالخرطوم، بعد أن خرج من غبار الصحراء زاحفا نحو المدينة، وربما يفاجئنا أن مسار خروجه من السودان وضعته أمريكا، ليمضي إلى حتفه هنالك، بعيد أن يكون قد روعهم وقض مضجعهم، يحكي كثيراً عن ما جري، ولا يخفي توجسه من حدث كهذا، خصوصاً بعد ورود بعض الاتهامات الخارجية في الصحف.. لا يزال النور أحمد النور وعلي عبد الكريم في منزله، الساعة تقترب من الرابعة ظهراً، يظن أن الجناة اقتحموا المنزل في وقت اعتاد فيه الوجود لمقابلة الضيوف، وأطلقوا الرصاص في كل مكان، حتى داخل الحجرات، مما يعني له أن توقيت الحادثة وأسلوبها كان ترصداً، علاوة على أن هنالك جهات خارجية كان لها مصلحة في الحادث، وهي -على حد تعبيره- الجهات التي تعادي الإسلام بحقد كبير، سوف تأتي سيرة فلسطين الجريحة المنتهكة، والبوسنة والهيرسك والاحتلال الأجنبي، وقتها أيضاً الصحف المصرية تروج إلى أن أسامة يدعم الأصوليين، بينما هو يعتقد أن جماعات التكفير والهجرة تنتمي إلى فكر الخوارج، وهو بذلك تحت رحمتهم. يدلف الرجل الذي نجا من الموت لتوه إلى رد الجميل إلى السودان، ويقول بصريح العبارة: “السودان كسائر دول العالم الثالث كان في الظل، إلى أن بدأ في تطبيق الشريعة الإسلامية ولذلك يستهدفونه”، ولا ينسى أن يشيد بأجهزة الأمن التي احتوت حادث الخليفي، مفنداً رواية تشير إلى أن للحكومة السودانية أصابع في ما جرى.

المخاوف تتنامى

لماذا لم تتخلق بعد رغبة تدميرية عند أسامة، رغبة عارمة ينقسم العالم حيالها إلى فسطاطين؟ هل عثر على ملامح قائد تنظيم القاعدة في روحه؟ حتى الآن لا يبدو ذلك حقيقياً، وإن كان الإحساس بالظلم والهوان يفسد عليه متعة الثراء. يتحدث بن لادن عن جهات يسميها بالمغرضة تريد التشويش بأن وجود العرب والمسلمين في السودان يجر عليه المشاكل. هنا يعزف على جيتار جديد، فهو بدا كمن يحاول ترجمة المخاوف التي تتنامى حوله، ويبعث برسالة لوم عندما يقول في متن الحوار: “نحن نكن للشعب السوداني كل خير، ونريد التعاون معه، وتشهد بذلك الأعمال التي نقوم بها”.. يتوقف التسجيل لبرهة من الزمن، تتغير ملامح الرجل ويشير صراحة إلى أن السودان ربما ضاق به، وفي سبيل ذلك قد يتعاون مع الإمبريالية الغربية، رغم أنه لم ينطلق بعد في مشروعه الجهادي العالمي، بل لا يزال يسعى إلى جلب استثمارات أخرى، وقد كال كثيرا من المدح لشخصيات سودانية، وصفها بالنبل والأمانة، واكتفى بالحديث عن الترابي بأنه نصير المسلمين وقضاياهم.

برقية عاجلة

حالة من الصمت تبتلع مبنى السفارة الأمريكية بالخرطوم، المبنى القديم، رجال الحراسة يرتشفون الشاي الأخضر خلف السياج الحديدي، السفير دونالد بيتريسون يقلب بعض الصحف والأوراق، ويبعث ببرقية عاجلة إلى وزارة الخارجية، تتضمن تفاصيل محاولة اغتيال أسامة وتعليقه الخاص، لكنه لم يكن يظن على الإطلاق أن الضربة سوف تأتيه من حيث لا يدري، ولذلك سوف تكون موجعة، ولذلك فإن إدارة كلينتون عليها مسؤولية أكبر، إزاء ذلك، لم يتردد دونالد البتة في جمع كل الخيوط وفرزها، سيحتاج إلى تعاون السفارة الفرنسية القابعة في العمارات قبالة شارع المطار، لن يكون هيناً عليه البوح بمخاوفه، أو كتمانها، فاسم بن لادن ليس مدرجاً في قائمة الإرهابيين بعد، ولذلك كان السفير يحاول تبرئة ساحته: “نحن في الخرطوم لم نكن في حقيقة الأمر قلقين بشأنه”.. تفتأ الخارجية الأمريكية تطلب عون الفرنسيين، بحسبانهم الأكثر ثراءً بالمعلومات حول نشاط مجموعة بن لادن، وذلك بفضل قنوات الاتصال المُشرعة بين جهاز مخابراتهم والخرطوم إثر قضية كارلوس، لن تتردد باريس في تسريب المعلومات إلى (السي آي إيه) فهي بقدر ما كانت عينها على كارلوس، كانت نظراتها على مرمى حجر من أسامة، ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية حتى العام 1996 كانت تعتبر أسامة “أحد أهم الرعاة الماليين للنشاط الإسلامي المتطرف في العالم” ولكنه ليس إرهابياً.

رجال بيض أذكياء

يلزمنا هنا وضع المقصلة على عنق التفاصيل المتعجلة، حتى لا ننتهي إلى تبرير الخروج الآمن، كون أسامة لم يغادر الخرطوم وهو حانق، ويشعر بالغدر، ويلزمنا أكثر أن نطل على مبنى مركز البحوث والدراسات في العمارات، المعني بمثل هذه الملفات ذات الطابع المخابراتي، الدكتور نافع علي نافع كان مديراً لجهاز الأمن العام، وكان بارعاً في جمع المعلومات وتحليلها، بينما كان على رأس الأمن الخارجي الفاتح عروة، وهو بالمقابل لديه خبرة كافية في التعامل مع الرجال البيض، ولذا سوف تضع المخابرات الأمريكية الخرطوم في الاعتبار، وسوف تزرع على مقربة من النيل رئيس محطتها باول أكواجليلا، لكن إدارة كلينتون في قرارة نفسها، تدرك تماماً أن الشخص الوحيد الذي يمسك بكل الخيوط في هذا البلد هو الدكتور حسن الترابي، عليها أن تتحدث إليه مباشرة، حتى ولو اضطرت أن تزحف نحوه على مراحل متقطعة.

نواصل
عزمي عبد الرازق
اليوم التالي