الصادق الرزيقي

هل رأى طفلاً من النُّور يذوب في الهواء؟!..


«أ»
لا ندري كيف دهمنا الزمن الأغبر، كأن السماء هنا غير السماء، ووقع الحوافر على أجسادنا وأعمارنا ينقش فوضاه على جبل الرخام النابت في آمالنا الكبار، وصورة الخراب التي تغشى دواخلنا مزقتها رياح العدمية اللزجة التي تقودنا إلى مهالكنا وننقاد لها كما الشياه.. كل شيء صار هلامياً، عبثياً، ثقيلاً، موهناً مريضاً.. حتى تلك الأحلام البريئة الصغيرة في التماعاتها وبريقها ووهجها المتدفق، صارت كتلة معتمة.. محنطة في توابيتها، تائهة في مداراتها ومواقيتها.
ولم نجد إلا سحاباً أحمرَ يملأ الأفق الأرجواني المزيف للسياسة، وهو يدلق حرائقه السوداء على وجوهنا الحائرة، ونحن نتلمس طريقنا نحو المثال الذي نشدناه، كأنما تحاصرنا الهزائم، وتثقل أكف الهواء حفنات الرماد!! يتداخل الموج في الرمل، والظلام المدلهم في أنسجة الضوء، ويتمطي العويل المُر في أبسطة الرضاء، تموت الكلمات المشبعة بالحنين والزهو والمعاني الدفيقة عند منحدر الأفعال الصغار وتجاعيد وجوهها لا تشير إلا إلى لعنة الجنون العاصف، وهو يزيح كل المضيئات الوامضات من أمامه كسيل غضوب ملعون.
لا تصلح أعيننا إلا لسكب دموعها في كبرياء، عندما يكون الجرح في القلب أكبر وأكثر غوراً، وتختبئ أنفسنا في معاني بؤسنا وأوجاعنا.. يقظانة تنتحب في متاهات الذهول.. وليس ثمَّة من يرقع تلك الغيمة المثقوبة فوق رؤوسنا، تساقط علينا قطرات من شحوب الذات والأفكار والأقوال والأفعال.. كأننا خُلقنا لنرضع من غيوم الياس ونشرب من نبع الفجيعة!!
«ب»
كان صديقنا عصام الدين فوزي جمال الدين، يفتح نافذة الفصل الأول «أبو بكر»، بمدرسة نيالا الثانوية، ليطل على الجانب الشرقي من المدرسة والمطار الترابي القريب، وتسبقه أشعة الشمس في الدخول لتملأ الفصل نوراً بعد أن ملأته ساعات الليل رطوبة وبرودة وفراغاً.. ثم تبدأ الهمهمة قبيل الحصة الأولى، هناك من يضع على الدرج كتب الأدب الإنجليزي «أنا كارنينا» للروسي المدهش ليو تولستوي، أو «جاميكا إن» للفريد هتشكوك، «موبي ديك» لهيرمان ملفيل، من الطلاب من يضع كراسته لمادة الإنجليزي ومن يستعد لحصة التاريخ وأستاذها الأسطوري عبدالله الضو فرج الله «سيراجيفو».. ووسط الجلبة يلعن صديقنا السياسة، قبل أن يلعنها الداعية التركي المغضوب عليه في بلده فتح الله كولن حين قال «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم والسياسة».
الزمان مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، في الفصل.. تدور حوارات عجلى، بعضها ساذج وبسيط لكنه عندما يدخل أباطح ساس يسوس، يتحول إلى ما يشبه الحكمة. وصديقنا عصام القادم من أقاصي شمال البلاد «لا أدري أين هو الآن»، يجرجر أكمام قميصه الأبيض الناصع ويقول.. إياكم والسياسة.. ثم لا يفسر لم ولماذا وكيف وهل وبل ..!بعكس صديقنا وزميلنا الفاضل إدريس الذي غمرته السياسة من أخمص قدميه حتى آخر شعرة نافرة من رأسه، كان في لجتها قائداً في التنظيمات الطالبية التي ظهرت آنئذٍ في آخر سنوات مايو «الشعب الطالبية» وكان يتأهب لاستلام الراية من طالب في السنة الثالثة وهو الإعلامي القدير بعد ذلك بسنوات لقمان محمد أحمد مدير مكتب الـ «بي. بي. سي» في العاصمة الأمريكية واشنطن اليوم.
الفاضل كان مغموساً في محبرة السياسة كيراع سنته من نار، كتبت به السياسة فصولاً نادرة، قبل أن يتحول إلى الجامعة فيرتقي في مراقيها قبل أن يطلِّقها بالثلاثة ويتجه إلى حياة خالية من الحمى والسهر، أو «السهر والقهر ووجع الضهر كما يقول البروفيسور إبراهيم غندور»، ولربما كان عصام الدين فوزي من حيث يدري أو لا يدري.. يقلب تراب أزمنة الخمول التي ستأتي على السودان لتصبح فيها السياسة حرفة ومن سبل كسب العيش وأقرب وسيلة إلى مصادقة الشيطان!!
«ت»
ظلت عبارات صديقنا عصام في ساعات الضحى الأبلج كل يوم عندما يفتح النافذة المطلة على المطار، وطائرة سودانير الفوكرز «30» تهبط عند التاسعة من صباح كل يوم، بألوانها المحببة وصوت محركاتها الأليف، وغبارها الخفيف في مدرج المطار الترابي، ظلت هذه العبارات محفورة في الذاكرة بالرغم من أن أصدقاء الدفعة جرفتهم سيول السياسة إلى كل منزلق، ومازالت ضحكات الدكتور عارف علي سعيد تكنة مجلجلة حين يصف بدايات التألق السياسي لبعض زملاء الدفعة والخطوات الولهى تحت إيقاعات السياسة العجلى والمشي المخبول.
فيض الحكمة الذي لم ينقطع وكان منسالاً كشعاع الشمس الصباحي، إن السياسة في أطهر حالاتها، كالبغاء في دنس قاعه، وقد قال الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، واصفاً العمل السياسي: «أول مهنة في التاريخ كانت البغاء وبعدها السياسة، وبعد تجربتي في الثانية لم أجد فرقاً بينها والمهنة الأولى».
كانت العبارات تلك تشبه العصفور الذي ينقر في وجه الزمن الذي نعيشه، والمزامير الضائعة في غناء السياسيين يملأ كل فجاج طمرتها زنابق الوهم السوداء، فلا تعترف السياسة بمبدأ يتلامع كالسيف، أو منطق يترافع في بهو التاريخ، فمن يبحث عن الصدق والأخلاق في السياسة كالباحث عن السر بين النساء والمتأمل في الخل الوفي بين العالمين، فسرادق السياسة الشفقي يمتلئ بلابسي الأقنعة وأغصان الملح المر النابتة في الألسنة وبأجنحة الفراشات المزركشة هي تحترق في نافورة نار الأكاذيب.
بعض أهل السياسة يتشبه بقول لجلال الدين الرومي في تعلقه بها:
«… وهأنذا دائب الدوران حول الشمس.. فما أعجبها!
ولا سبب لهذا سوى جلال الشمس ..».
ولهذا السبب ترى السياسيين يتهاوون في جبل رمادي الخطايا، عندما يلعبون اللعبة، يتسابقون في ميدانها ومضمارها الآبق، كأنهم ولدوا في حجرات الأساطير المظلمة يرقصون رقصة النار في رعشة تشبه قفزات المسوخ في بخور التعاويذ!!
ولو لم تك السياسة إلا هذا السرداب الطويل الغارق في ظلاماته وظلماته، لقال الناس، صه..! احذروا من الوقوع في عتباتها المنحدرة إلى وهادها، لكنها ساحرة تتثنى كالحية الرقطاء حيناً، تنفح عطرها السحري للمارين على دروبها كالأفراس الراكضة في غبار الأصيل، ثم تلتقطهم جميعاً في رقصة الهياج والموت تحت أقدامها ومخالبها وجناحيها وتسلبهم كل شيء.. عراة في رماد الطريق!!
«ث»
وكنا نظن في زماننا الأنضر ذلك، أننا بالسياسة قد نسرق أسرار السماوات ونزخرف قناديل الزمان وننفخ رماد العصر ونعكس رؤى الموتى على الأحياء ومعنى الحياة وهو يتراقص في الأفق البعيد.. ونفهم لغة الطير وزرقة الكائنات وحوارات الشواهد والقبور.. وكيف تصنع إرادة الإنسان الجبارة التي تغير مجرى التاريخ.. لكن يتردد الصدى القديم ذاته:
يروق للعابد أن يرى انسكاب وجهه في شمعة البكاء،
يروق للشاعر أن يُعلّق النجوم في قطيفة السماء
يروق للمرأة أن تنشر نصف شعرها في الشمس
والنصف على أريكة المساء
يروق للقطة أن تمارس التثاؤب الجميل والتحديق في مدفأة الشتاء
يروق للصوفي أن يخلع تاج العقل أو يلبسه في الحلم، عندما يشاء
يروق للطاغية الإبحار في ذاكرة الموتى من الأحياء
يروق للأعمى اكتشاف عبث الألوان في تماثيل الغناء
يروق للجاهل أن يغرس وردتين في قميصه.. الغرور والغباء
يروق للقاتل أن ينصت مشدوهاً إلى قيثارة الدماء
يروق لي، أن أسأل الطفل القديم:
هل رأى طفلاً من النُّور يذوب في الهواء؟!..