مقالات متنوعة

احمد يوسف التاي : “هؤلاء” و”أولئك”


الدهاء والمكر متلازمتين من متلازمات السياسة، ونقيضهما النوايا الحسنة والعفوية. وإذا كان استخدام المكر والدهاء في السياسة يشمل الغدر وتغيير المواقف بحسبما تقتضي المصلحة، فإن الأمر لا يختلف كثيراً عن البراغماتية Pragmatism التي تعني “النفعيّة” أي العمل بناءً على المنفعة وحدها.. يعني ببساطة شديدة “مصلحتي عندك أنا معاك وإلا فلا”.. هذه هي الأرضية التي يؤسس عليها السياسيون أهدافهم ومنطلقاتهم وأطر تفكيرهم وتعاطيهم مع القضايا الداخلية والخارجية، فرجل السياسة البراغماتي هو قطعاً إنسان مختلف تماماً عن رجل السياسة الأيديولوجي، فالأخير يجد نفسه مقيداً بثوابت وأفكار يسميها مثلاً: الثوابت الوطنية أو الدينية أو المبادئ الأساسية، ولا يستطيع الخروج من دائرتها المغلقة، وأما (البراغماتي)، هو شخص متحرر من كل أيديولوجيا، أو موقف مسبق، ويتصرف – بما ينفعه وفق الظرف والحال.. السياسي البراغماتي يدعّي دائماً بأنه يتصرف ويعمل من خلال النظر إلى النتائج العملية المثمرة التي قد يؤدي إليها قراره، وهو لا يتخذ قراره بوحي من فكرة مسبقة أو أيديولوجية سياسية محددة، وإنما من خلال النتيجة المتوقعة لعمل ما ..

وبإلقاء نظرة فاحصة تأخذ في الاعتبار كل المعطيات التي سبقت الإشارة إليها، نستطيع القول إنه لا يوجد الآن أنظمة سياسية ترتدي عباءة الأيدولوجية خالصةً، هذا إذا استثنينا إلى درجة ما النظام الإيراني حالياً، فعالم اليوم تحكمه المصالح بلا أدنى شك، لكن السؤال الجوهري الذي يجعل الحديث عن (المصالح) موضوعياً ودقيقاً ومحدداً جداً هو: أي المصالح التي يجب أن تكون هي الهدف؟ فهناك المصلحة الشخصية، والحزبية، القومية.. فلا ضير أن يراعي نظام حكم ما المصلحة القومية التي يجني ثمارها شعب البلد المعني.. ولا ضير أن يحني نظام ما رأسه للعاصفة – ريثما تمر- لدفع ضرر ماحق قد يأخذ بتلابيب الجميع، ويهلك الحرث والنسل طالما أن هناك مخرجاً يحفظ زهرة الحياة دونما ذبول، ويفعل ذلك أيضاً لجلب مصلحة عامة.. أما إذا كانت لغة المصالح تتحدث مفرداتها عن المصالح الذاتية والحزبية، فتلك إذن جريمة وطنية مكتملة الأركان..

بعد كل ذلك الشرح والإسهاب نستطيع القول إن السياسية السودانية بعد الاستقلال مباشرة كانت تُدار بـ(العفوية) وحسن النوايا التي أشرت إليها في بداية حديثي، واستمرت تلك الحالة منذ حكومة الأزهري إلى انقلاب الجبهة الإسلامية بزعامة الترابي، حيث تقلب نظامها من الأيدولوجيا إلى البراغماتية. وأما العفوية التي كانت تدار بها البلاد يكفي فقط أن نشير إلى الحديث الذي أدلى به عمر حضرة حينما تحدث عن المرأة التي جاءت للشريف حسين الهندي وأخبرته بأمر انقلاب نميري وما كان يدور من اجتماعات لإحكام خطة الإنقلاب في منزل جارتها، وقد تعامل الهندي والأزهري مع الأمر بعفوية شديدة، وتجاهل تام، وما كانت إلا أيام قلائل سمعوا بعدها (المارشات) وتحول الحكام إلى مشردين ولاجئين وسجناء بسبب العفوية التي أداروا بها البلاد أمنياً، والشيء نفسه حدث مع الصادق المهدي عندما كشف له مدير أمنه تحركات (الإنقاذ) حيث تجاهل الأمر وتعامل معه بعفوية شديدة، وقال لمدير أمنه: “أنا متأكد ما حيقوم أي إنقلاب “.. وكان قبل ذلك تنزع (الإبر) من الدبابات وتوضع في مكان ما بمكتب وزير الدفاع ورئيس الوزراء الصادق المهدي للحيلولة دون الانقلابات، فما أغنى عنهم ما كانوا يفعلون.