تحقيقات وتقارير

(جكة) “البشير” في دارفور الأسبوع القادم


في الجلسة الافتتاحية لشورى المؤتمر الوطني التي غطى على ختامها رحيل “الترابي”، بدا الرئيس “البشير” سعيداً جداً بحصاد تحضيرات استفتاء دارفور الإداري، وقال إن الاستفتاء يمضي وقد تم تسجيل حتى ذلك الوقت نحو (4) ملايين ونصف المليون ناخب من جملة نحو (7) ملايين ناخب، وقال “البشير” بلهجة دراجة (سوف نذهب لدارفور ونأخذ لينا معاهم جكة)، و(الجكة) هي الهرولة ما بين المشي والجري، وعند عرب البادية يسمون (هرولة النياق) بـ”المقودعة”.. وجاء على لسان “ود ضحوية” حاثاً جمله على الإسراع به من أجل محبوبته (أسرع قودع أمسيت والمواعيد فاتن)، وتتخذ لغة الرئيس “البشير” مفردات من عامية تساعد في صياغة الموقف التعبيري عن الذات.. و(الجكة) التي أعلنها الرئيس “البشير” تبدأ الأسبوع القادم، ويمضي خمسة أيام يطوف فيها على ولاية دارفور، يوم لكل ولاية.. ومنذ الحملة الانتخابية الأخيرة لم يخرج الرئيس “البشير” طائفاً على الولايات إلا زيارات قصيرة للنيل الأبيض والجزيرة وشمال كردفان والبحر الأحمر، لكن تحت وطأة الحاجة لتعبئة المواطنين من أجل المشاركة في الاستفتاء يقوم الرئيس بجولته القادمة في دارفور التي تشهد متغيرات عديدة على الأرض ببسط القوات المسلحة وقوات الدعم السريع سيطرتها على أجزاء واسعة من الإقليم، حيث تبدلت الخارطة الأمنية للإقليم من العام الماضي واستعادة القوات المسلحة أغلب جبل مرة، وخرجت حركات العدل والمساواة وحركة تحرير السودان من أرض المعركة بهزيمة الأولى والقضاء عليها وتصدع قيادتها واستسلام أغلب عناصرها.. واختيار الثانية أي حركة تحرير السودان برئاسة “مناوي” اللجوء إلى ليبيا والقتال في صف اللواء “حفتر” بحسابات ورهانات أن ذلك الجنرال يستطيع إخضاع ليبيا لسيطرته.. وبذلك خرجت قوات “مناوي” من دارفور التي يمضي فيها الرئيس “البشير” خمسة أيام هي أطول مدة يمكثها الرئيس بعيداً عن القصر الرئاسي في العشر سنوات الماضية باستثناء رحلة الاستشفاء للمملكة العربية السعودية قبل عامين.
{ الفاشر بين عهدين
يبدأ الرئيس جولته في دارفور العاصمة التاريخية لدارفور مدينة الفاشر التي بددت سحائب الشك من قبل بعد صدور قرار من المحكمة الجنائية بتوقيف “البشير”، واختار الرئيس أولى محطات خطابه بعيداً عن الخرطوم، قلب دارفور.. وظن البعض أن دارفور ستشيح بوجهها عن الرجل وتستقبله بغير ما يقوله سلطانها في ذلك الزمان “عثمان كبر”.. وخرجت مدينة الفاشر في تلك الأيام كما لم تخرج حتى للسلطان “علي دينار”.. وسد الآلاف الطرقات وملعب النقعة الشهير، وقال الوالي “عثمان كبر” حينذاك عبارته الشهيرة (وليد مرية كضاب)، وبدت على الرئيس علامات الرضا والتحدي لقرارات المحكمة الجنائية، وتعهد لمواطني دارفور بتنفيذ طريق (الإنقاذ الغربي) والتفاوض مع المتمردين إن هم أذعنوا للسلام.. واليوم يعود “البشير” للفاشر التي يسودها الأمن والطمأنينة بنجاح الوالي المهندس “عبد الواحد يوسف” في القضاء على الانفلات الأمني داخل المدن، ومحاصرة النهب وقطاع الطرق.. وشهد الرأي العام للوالي الذي يتسم (بنبرة) هادئة بنجاحه في الملف الأمني في انتظار الرئيس لدفع مشروعات التنمية التي توقفت مثل طريق (الفاشر- كتم) وطريق (الفاشر- نيالا).. وإعادة الروح لمشروع (أبو حمرة) الزراعي.. وتواجه حكومة شمال دارفور عقبات كبيرة تنتظر قرارات وسياسات من المركز، أولها مستقبل معسكرات النازحين التي استقبلت في (طويلة) أعداداً كبيرة من النازحين الجدد جراء عمليات الصيف الأخيرة في جبل مرة، وقدرت هيئات الأمم المتحدة عدد النازحين الجديد بمنطقة (طويلة) بنحو (90) ألفاً، بينما لم تذكر حكومة السودان حتى اليوم رقماً محدداً عن إفرازات النزوح الأخيرة.. ولكنها- أي الحكومة- تشكك في أرقام الأمم المتحدة و(يوناميد)، وتظل هذه الأرقام على قيد الحياة حتى تقدم الحكومة رقمها عن عدد النازحين الجدد.. وملف النازحين في إقليم دارفور وولايتي شمال ووسط دارفور يظل حاضراً، وينتظر من الرئيس كلمة بشأنه.
أما عن الاستفتاء الذي من أجله جاء الرئيس لتعبئة الرأي العام وحثه على المشاركة، فقد بات خيار أغلب سكان دارفور التصويت لصالح الوضع الإداري الراهن- أي الولايات الخمس- وتراجعت فرص الإقليم الواحد ويتخلى بعض دعاته نزولاً عند مقتضيات المصالح السياسية والتحالفات، فقد أعلن حزب التحرير والعدالة برئاسة “أبو قردة” تخليه عن الدعوة للإقليم الواحد.. وسب دعاة الإقليم.. ووضع كل بيضه في سلة المؤتمر الوطني.. ورفضت المعارضة التي تحمل السلاح والمعارضة السياسية المشاركة في الاستفتاء ودعت لمقاطعته بعد أن جردت حسابات الربح والخسارة، وقرأت الملعب السياسي جيداً، ويقينها أن معركة الاستفتاء تمضي لصالح المؤتمر الوطني.. ولم تصغ جماهير دارفور لدعاوى المعارضة وإلا لما بلغ عدد المسجلين الأربعة ملايين نسمة.. ووقف د. “التجاني سيسي” رئيس حزب التحرير والعدالة القومي وحده داعياً المواطنين للتصويت لخيار الإقليم الواحد.. ووجد موقف د.”السيسي” الاحترام والتقدير من السودانيين ليعيد قول الشاعر:
فينوس يا رمز الجمال ومتعة الأيام عندي
لما جلوك على الملأ وتخيروا الخطاب بعدي
هرعوا إليك جماعة وبقيت مثل السيف وحدي
رغم أن د. “السيسي” يقف وحده مع خيار الإقليم إلا أن السودانيين يحترمون أصحاب المبادئ والقيم.. لم يتخل “السيسي” عن موقفه الداعم لعودة دارفور إقليماً واحداً، الذي كان موقفاً متفقاً عليه بين كل مكونات المعارضة الدارفورية والحركات المسلحة، وحتى منبر الفريق “إبراهيم سليمان” كان يقف مع هذا الخيار ومعه قيادات داخل المؤتمر الوطني.. لكن حينما دقت ساعة الحقيقة آثر أغلبهم الصمت النبيل.. وإذا تطلب الموقف الجهر بالدعوة للولايات المتحدة لن يستنكف هؤلاء أن يتقلبوا في مواقفهم وينكصوا عن عهودهم ثمناً لكراسي السلطة، لكن د. “التجاني سيسي” منح موقفه الداعم للإقليم الاستفتاء زخماً وحرارة وهو يعلم يقيناً أن خياره الذي يدعو إليه خيار (صفري) ولو لم يجد المؤتمر الوطني د. “التجاني سيسي” لكان حرياً به البحث عنه في دارفور حتى لا تخرج نتيجة الاستفتاء الإداري مثل استفتاء جنوب السودان لتقرير المصير (99,9%) ومثل الاستفتاء في العهد المايوي السابق (99,9%) نعم لـ”جعفر نميري” وهو يعلم مسبقاً زيف تلك النتيجة، وكل المؤشرات تقول إن استفتاء دارفور الإداري تفوز فيه رؤية الولايات المتعددة بنسبة لا تقل عن (70%)، لكن أية نتيجة أكثر من (90%) هي في غير مصلحة المؤتمر الوطني وتصبح مدخلاً للتشكيك في نزاهة العملية الإدارية، خاصة وأن هناك كتلة جماهيرية في أرض الواقع مع عودة الإقليم، ولن تبتلع تلك الكتلة الأرض في ضحى يوم الاستفتاء الإداري.
{ دار أندوكا وزالنجي
المحطة الثانية في رحلة الرئيس داخل أعماق دارفور هي الجنينة (دار أندوكا) التي ظلت في السنوات ما بعد اتفاقية (أبوجا) تحكم من خلال القيادات الموقعة على اتفاقية السلام، ونجح “أبو القاسم إمام الحاج” قبل أن يعود للتمرد في بسط الأمن والتعافي من أسباب الصراع، وجاء من بعده الوالي “حيدر قالوكوما” ممثل حركة التحرير والعدالة.. وذهبت التعديلات الأخيرة بالوالي د.”خليل عبد الله” والياً على أكثر ولايات السودان (اضطراباً).. وفي بدايات عهده تعرض لجملة مشكلات، أولها الإضراب والتظاهرات التي حدثت في الجنينة بسبب الخبز الحاف، ثم تجددت بوادر الصراع القديم بين “المساليت” و”العرب”، لكن نجحت إدارة د.”خليل عبد الله” في إطفاء الحريق ولو مؤقتاً.
وغرب دارفور مثل غيرها من الولايات تعاني نقصاً في التنمية وشحاً في المال وعجزاً عن الوفاء بالتزامات الحكومة نحو مواطنيها، وحتى مشروعات الجنينة عاصمة للثقافة لم تكتمل بعد، إما بسبب ضعف المتابعة أو (أكل) أموال الدولة من قبل بعض الشركات.. ومطالب أهل (دار أندوكا) هي الأمن ونزع سلاح المليشيات المسلحة وجعل السلاح في يد الحكومة وحدها، وتلك مهمة صعبة جداً رغم أن الرئيس قد أعلن ذلك في مخاطبته لمجلس شورى المؤتمر الوطني الأخيرة.. لكن المسافة بين الأقوال والقدرة على الأفعال في واقع مثل دارفور بعيدة جداً.. وفي زالنجي عاصمة وسط دارفور فإنها الولاية الثالثة التي يحكمها أحد أبنائها، وتلك شهادة في صالح الشرتاي “جعفر عبد الحكم إسحق” الذي حقق نجاحاً كبيراً في الانتخابات، وجنب وسط دارفور الصراعات القبلية والإثنية، ولعب دوراً سياسياً في استمالة عدد كبير من الحركات المسلحة للسلام، وهو القادر على دخول معسكرات النازحين في الوقت الذي ترفض فيه قيادات النازحين دخول المسؤولين الحكوميين، لكن رغم الأداء السياسي الذي بلغ درجة الممتاز إلا أن الحكومة المركزية قد خذلت الشرتاي “جعفر عبد الحكم” في اعتماد مال لمشروعات كبيرة في الولاية باستثناء مطار زالنجي الجديد الذي قد لا يشكل أولوية بعد أن أصبح سكان زالنجي يستخدمون مطار الجنينة، ولا تبعد زالنجي عن الجنينة إلا بمقدار ساعة من الزمن بعد اكتمال طريق (الإنقاذ الغربي).. وقد أفرزت العمليات الأخيرة واقعاً على الأرض يتطلب خطة حكومية مركزية لإعمار القرى التي تم تحريرها.. وسياسات لتوطين الأهالي وفق عودة طوعية مرنة قبل حلول فصل الخريف وصيانة وتأهيل المدارس والآبار والحفائر وتأمين طريق (زالنجي- كاس- نيالا).. تلك أشوقا يتوق الفور والقبائل العربية لالتزامات من الرئيس نحوها.
{ نيالا.. الضعين والملف الواحد
إذا كانت ولاية شرق دارفور قد تعاقب عليها عدة ولاة أولهم اللواء “محمد فضل الله” ومن بعده الدكتور “عبد الحميد موسى كاشا” ثم العقيد “الطيب عبد الكريم” فإن العقيد “أنس عمر” قد حقق ما عجز عنه حتى أبناء الولاية الذين خذلهم أهلهم، ما جعل الدكتور “عبد الحميد موسى كاشا” وهو رجل صادق مع نفسه والآخرين يتقدم باستقالته جهراً في وقت (عزت) فيه الاستقالات وأصبحت مثل (لبن الطير) إن كان هناك لبن للطير باستثناء (الوطاويط) التي تنتمي لذوات الثدي ولكنها تطير بجناحين، وتلك من معجزات خالق السموات والأرض.. وشكل صراع “الرزيقات” و”المعاليا” عاملاً مهماً في عدم استقرار ولاية شرق دارفور وأقعد بها.. إلا أن الشهور الأخيرة شهدت اختراقات كبيرة وما عجز عن إصلاحه الرجال أفلحت فيه “أميرة الفاضل” من خلال سياسة مصالحات (ناعمة) خاطبت جذور الأزمة واقترب “الرزيقات” و”المعاليا” من الاتفاق على بنود صلح تستند إلى اتفاق (مروي) بـ(توضيحات) على طريقة الإمام “الصادق المهدي”.. فهل يفاجئ “الرزيقات” و”المعاليا” الرئيس “البشير” أثناء زيارته لشرق دارفور (ويفقأون) عين الشيطان بالتوقيع على اتفاق صلح ينهي النزاع الذي تطاول منذ الستينيات؟؟
وفي نيالا استطاع الوالي “آدم الفكي” أن يطفئ كثيراً من (الحرائق) وبؤر النزاعات القبلية وتبدلت ملامح الولاية أمنياً.. ولكن تنموياً لا تزال تقف جنوب دارفور عند محطة البحث عن تمويل لمياه نيالا من حوض البقارة وطريق (نيالا- عد الفرسان- رهيد البردي) الذي كان من أولويات وزير المالية السابق “علي محمود”، ولكن اليوم بات أولوية ثانوية عند “بدر الدين محمود”.. وتجسدت مأساة واقع التعليم في الجنوب من خلال توقيع “آدم الفكي” الشهر الجاري على اتفاق مع شركة (جياد) لأساس مدرسي لتجليس (60) ألف طالب وطالبة، حيث يجلس على الأرض (60%) من طلاب مرحلة الأساس و(30%) من طلاب المدارس الثانوية، ومع وصول بشريات أولى ثمرات ذلك الاتفاق لينالا ينتظر مواطنو البحير الرئيس “البشير” لتقديم شيء من المال لتغيير واقع حال الولاية التي عادت إليها الطمأنينة، لكنها تنشد الاستقرار والسلام والتنمية.
{ عودة سلطنة الفور
اندثرت سلطنة الفور منذ وفاة السلطان “علي دينار” وتمزق شمل القبيلة وتم إضعافها عقاباً لها على دورها في دعم الحكم الوطني الأول برئاسة السلطان “علي دينار” الذي أسس سلطنة جمعت كل مكونات دارفور وتمددت حتى كردفان.. ووقفت الحكومات المتعاقبة على حكم البلاد بعد الاستقلال في وجه عودة سلطنة الفور، إما خوفاً منها أو عجزاً عن إمكانية (ترويض) سلطان الفور.. وبعد رحيل السلطان السابق “حسين أيوب علي دينار” توافقت كل قيادات الفور وبطون القبيلة وأسرة السلطان وأهل الحل والعقد على اختيار قيادة شابة ممثلة في السلطان “أحمد حسين أيوب علي دينار” وهو شاب مثقف عمق الرؤى.. واسع الخيال.. جمع حوله أعيان القبيلة ورموزها، لم ينكفئ على أسرة السلطان وحدها، وفتح قلبه وبيته لكل أهل السودان، والسلطان “أحمد حسين” تمتد بعض جذوره لقبيلة “العبابدة” في شمال السودان من جهة الأم، ولم يعرف عنه انتماء سياسي لحزب من الأحزاب، لذلك وقف في وجه الأمير “أحمد سعد عمر” الذي سعى لاستقطاب (أخواله) الفور لصالح الحزب الاتحادي الديمقراطي، وتسخير أكبر قبيلة في السودان لمشروع “أحمد سعد عمر” الخاص.. وبث السلطان “أحمد حسين” خطاباً سياسياً قومياً وسط قبيلة تعرضت للظلم من كل الذين يحملون السلاح.. تعرضت للظلم أولاً من أبنائها الذين مزقوا أحشاءها باستقطاب التمرد من أقاصي دار “الزغاوة” لقمة جبل مرة، وتعرضت للظلم من القبائل العربية الطامعة في أراضي الفور الخصبة، وتعرضت للظلم من الحكومة التي لم تحمِ الفور من هجمات (الجنجويد) و(التورابورا).. وقد تكشف معدن السلطان “أحمد حسين” حينما قاد وفداً من السلطنة للفاشر الأسبوع قبل الماضي، وخاطب المواطنين هناك بلسان مبين.. ودعا النازحين للعودة، ودعا الحكومة لتوفير احتياجات النازحين من الغذاء والدواء والكساء، وتحمل مسؤولياتها نحو تنمية مناطق الفور التي تعرضت للتخريب والإهمال.. وبذلك يصبح سلطان الفور الجديد “أحمد حسين” هو “علي دينار” الجديد، خاصة وقد التف حوله الناس من كل القبائل، ووجود السلطان إلى جانب “البشير” على الأقل في رحلته لولايات شمال دارفور ووسط وجنوب دارفور.. وليت “البشير” في رحلة الأيام الخمسة يحضر معه في الطائرة الرئاسية الشيخ “موسى هلال” وسلطان دار مساليت “سعد بحر الدين” وناظر الرزيقات “محمود موسى مادبو”.. لأن هؤلاء هم (أوتاد) أرض دارفور، أما السلطان “أحمد حسين” فهو متفق عليه ليصبح زعيماً لدارفور لسد (الفرقة) التي خلفها رحيل جده السلطان “علي دينار”.

المجهر