مقالات متنوعة

د. مصطفى عثمان إسماعيل : مشاهد ومواقف (1) .. دكتور “الترابي” الذي عرفته !!


الحمد لله رب العالمين، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأصلي على سيد ولد آدم النبي الخاتم وعلى آله وصحبه وأزواجه أكمل الصلوات وأتم التسليم..
وبعد.
يقول المولى عزّ وجلّ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) صدق الله العظيم.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر
إن الحياة لقصيرة والمسير طويل والزاد قليل، فكلنا وإن شغلنا بالدنيا وخدعنا بالخلود فإننا لا محالة إلى زوال، فالبقاء لله و(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، رحيلنا عن الدنيا من المسلمات الإيمانية التي جبلنا عليها.. فهذا طريق مطروق ودرب مسلوك، فهذا درب الذهاب إلى الله وهو منتهى العالمين الأولين منهم والآخرين، سبقنا إليه الأولون عظيمهم ووضيعهم، قويهم وضعيفهم، عالمهم وجاهلهم، أنبياء وحواريون، ملوك وسدنة، قضاة وحجاب.. لكن هول الممات والارتحال ما زال موجعاً وجرحه بليغاً رغم اعتياد الموت وكثرة ما حملنا على عواتقنا من نعوش الأحباب لكن ألم الفراق يظل حقيقة كما الموت.
فجعنا ولا كلمة غيرها.. نعم فجعنا قبل ليالٍ خلت برحيل شمس العلم والفكر والتواضع، رحيل علم الأعلام وسيد الأقلام الشيخ الجليل العالم النحرير الخطيب المفوه والكاتب المخضرم، عراب الحركة الإسلامية وقائد حركة التجديد، وأمين أمة السودان، الراحل المقيم بين الأضلع والحنايا وملء النفوس الحبيب الدكتور “حسن عبد الله الترابي”، رجل سُخِّر له العلم والتواضع ولا غرابة فإنه تواضع العلماء.
عهدتك واعظاً في كل خطب: وأنت اليوم أوعظ منك حياً
تشيعك القلوب وأنت فيها: حـبيباً طاهراً عفاً نقيا
رحلت وفي الحشا ألف ألف جرح: على فراقك تدمي جانبيا
إنه من أعظم الابتلاء فقد الأحباب والخاصة، بين غمضة عين والتفاتتها فيد المنية أسرع والموت يتخطفنا، فاليوم نكون بكاة وغداً مبكي علينا.. فهول مصاب المصائب فاجع وحزنه بالغ وأساه يفوق كل مواساة، لكن ما لنا غير القبول والاسترجاع فلله ما أعطى ولله ما أخذ.. فالدمع الثخين تنوء به المدامع، والقلب يكاد أن ينفطر وينخلع من بين الأضلع، لكن عزاءنا أن الراحلين طريقهم أخضر بما مهدوه بصالح العمل ونافع العلم ومنافحة الجهل ورد الضلال وإعلاء كلمة التوحيد لا إله إلا الله، ومِن ظننا الخير بمن ماتوا استكبرناهم على الموت، وليسوا هم عند الله أكبر من سيد المرسلين، وفيه عزاء الراحلين والمودعين، نواح الرجال ونشيج الشيوخ وعويل الثاكلات، علامات هول وانصدام في ظاهرها، لكنها في باطنها ترسيخ لمعاني الموت وحقيقة الافتراق.. وتمضي الحياة وكل ذكرى إلى اندثار فتبقى جلائل الأعمال والآثار وما أكثرها في سِفر فقيدنا الخالد الشيخ “حسن” الذي أثرى بعلمه قلوب الرجال فكان قائداً يتدفق حكمة، وعَلماً يتناثر علمه كالدر والياقوت تتخطفه عقول الرجال.. رحل رجل الأفكار والمبادرات.. رحل رجل التجديد والتأصيل.
فيا عجباً للقبر كيف يضمه؟ وقد كان سهل الأرض يخشاه والوعر
وما مات ذاك الماجد وحده بل الجود والإقدام والبأس والصبر
قصتي مع الشيخ “حسن عبد الله الترابي” كانت منذ بواكير الصبا، وكنت حينها غض الإهاب في الحادية عشرة من عمري طالباً بمدرسة “القولد” وكان هو حينها مفكراً ملء السمع والبصر يجوب البلاد من أقصاها إلى أقصاها لينثر علمه وفكره المستنير، وقد كان لنا نصيب في منطقة “القولد” وهي منطقة كانت واحدة من بقاع العلم الوهاجة في السودان، وأنشودة يصدح بيها تلاميذ المدارس آنذاك، فقد كانت قبلة الفقيد في ندوة سياسية في انتخابات 1966م، ولي معها قصة لا أمل من حكايتها لأنها كانت بداية ميلاد شخصية “مصطفى” الذي أنا عليه، والقصة معلومة للكثير منكم إذ إنني تسورت سور مدرستي وآثرت العقوبة عشر جلدات مع التمتع بحضور الندوة على الخضوع لأمر المدير مع حرماني من حضور تلك الندوة، التي كانت بمثابة بدايتي لتلمس الخطى في الحركة الإسلامية والتعرف عن قرب على شخصية الشيخ “حسن الترابي”، هذه الشخصية التي شغلت الأقارب والأغراب ما بين حب وانبهار، وإقصاء وإنكار.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد ** وينكر الفم طعم الماء من سقم
كان لقائي به مع صاحبيه الراحلين العزيزين “يس عمر الإمام” ومولانا “محمد صادق الكاروري” في تلك الليلة، لأول مرة أسمع هتاف (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا). ذلك الهتاف الذي كان يصدح به راحلنا العزيز في تلك الليلة في ذلك الميدان الذي امتلأ بالجماهير رغم المحاولات المستميتة التي بذلتها الأحزاب التقليدية لمقاطعة الندوة. سألني المدير بعد أن أصلاني بسوطه عشر جلدات بدون ذنب جنيته، سألني: تتسور السور وتذهب لندوة الخامسية، ما الذي فهمته من الندوة؟ قلت: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا) فلطمني لطمة كادت أن تطير صوابي. لتمضي بنا السنوات ونرتقي في مراحل التعليم ومؤسساته التي كانت منبراً لكل خطيب، كلٌ يعرض بضاعته منها الغث ومنها السمين، ومنها الرائج ومنها الكاسد، وقد كانت تلك الفترة خصبة ملأى بالتيارات الفكرية يمينها ويسارها وكان للراحل منها نصيب، وقد كنا من النهم للمعرفة نتعارك على كل الكتب والإصدارات والدوريات والصحف، ونتسابق على تصدر مجالس التعلم ومقاعد الندوات، ما منحنا فرصاً كثيرة للالتقاء بقادة الفكر وصناع القرار وعرابي الأدب والصحافة وقادة الرأي العام وقد كان الشيح “حسن الترابي” أبرز هؤلاء.. وبعدها عاشرناه عن قرب ورافقناه حلاً وترحالاً، فقد كان أعظم مما سمعنا به عنه، كريماً سمحاً طريفاً ظريفاً، سهل الخلق، ودوداً متواضعاً، فقيهاً له باع طويل في التبحر في علوم الإسلام وفقهه وأحكامه، وله مؤلفاته في ذلك (تجديد أصول الفقه، تجديد الفكر الإسلامي، الأشكال الناظمة لدولة إسلامية معاصرة، تجديد الدين ومنهجية التشريع، المصطلحات السياسية في الإسلام، الدين والفن، المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع، السياسة والحكم، الصلاة عماد الدين، الإيمان وأثره في الحياة، الحركة الإسلامية… التطور والنهج والكسب، التفسير التوحيدي) وغيرها من الكتابات والنشرات والندوات المسجلة..
أرثيك يا كريماً تردد ذِكرهُ ** بين الأنام وهل يفيد بيانِي
خالد ولن يجدُ الزمان بمثلهِ ** شهماً شريفاً طيفه أشجانِي
أما أن أحكي عن سيرته وفكره وجهاده واجتهاده، فهذا حديث يطول ولن ينقضي ولو أفردت له عشرات الصحائف والكتب، فهو فصل من فصول تاريخنا السياسي، ومجلد في مكتبة الفكر الإسلامي والسياسي، ورقم في التنظيمات الإسلامية العالمية الشعبية منها والرسمية، وشخصية تبوأت مكانها بين قادة التيارات الإسلامية نشاطاً وفكراً وعملاً، أما عن مشروعه الإسلامي فيكفي أنه ضعضع عروش دول الاستكبار فأصبح اسمه يزلزلهم لما يعلمونه عنه من فكر ثاقب وطموح يناطح السماء وعمل دؤوب لا ينقطع، ولقد سعوا إلى إيقافه بشتى السبل ولم يفلحوا لأنه كان متوكلاً على الله وهو مولاه يحمل القرآن كاملاً في قبله، ولم يكن له همّ غير الإسلام وما أنعمه من همّ.. ولقد كان للسودان نصيب مقدر حيث كان الفقيد مهموماً به يريد له الريادة الحقة، ريادة عبر منصة الإسلام لا عبر دبلوماسية المصلحة وتنمية الربا وتطور الخنوع إلى الغرب والائتمار بأمره ، فكانت الحرب عليه وعلى وطنه لكنها لم تزده إلا يقيناً بأنه على الطريق الصحيح، طريق الأنبياء والسلف الصالح والذين أوذوا أكثر مما أوذي، فكان يستخف بنائبات الزمان ويكثر الاسترجاع إلى ربه بقول (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).. وحسبنا الله ونعم الوكيل، وأنا هنا أرددها في فقده الجلل (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).. وإنا والله لفراقك لمحزونون.
وأقول فيه ما قال الشاعر:
يا طيبَ مـَـنْ رافقتُ مِــنْ رجُلٍ يـرْحمْهُ ربي كانَ أحـسَنَنا
عذباً صدوقاً صائماً ســمحاً جلْداً صبوراً قانــتاً حــزِنا
عبْـقاً عــطـــوراً باسـِماً شَـرِفاً كيْسـاً فطـيناً للصالحاتِ رَنا
سَلماً لِكُلّ الـــمؤمـنينَ لهمْ مسْـتغفراً للهِ حيثُ دنا
حرْباً عـلى الفسّاقِ يمْحقُهــم بالنورِ من بـينِ الجبينِ سَنا
لله محْـزوني عــــليـكِ أيا خيرَ الرّفـاقِ النّاصِحينَ لنا
يُسكنْـكَ ربي جَنةً فرِحاً تحيا بها مستـنعِماً بهنا
تدعو لــنا اللهَ الغــفورَ بأنْ يغفرْ لنا نلْقاكـموا بــِجَنا
يقول تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).. صدق الله العظيم.
سأحاول في مقالات قادمة أن أستعرض بعضاً من المواقف والمشاهد التي شهدتها مع الراحل العزيز في حله وترحاله في داخل السودان وخارجه، في ليبيا والشام وأفغانستان وباكستان، في سجنه، في منزله وفي مكتبه.. ما هي آخر وصاياه، ومواقفه من الحوار ومن الوحدة لماذا قاطع الانتخابات الأخيرة، وكيف كانت علاقتي به أوقات الانقسام والوحدة.. أجزم أنني سأخوض في بحر لا ساحل له.. أسأل الله التوفيق والسداد
.
*وزير خارجية السودان الأسبق أستاذ العلوم السياسية– جامعة أفريقيا العالمية


تعليق واحد

  1. كيف استاذ العلوم السياسية في جامعة أفريقيا مش قالوا الود ده بقلع الاسنان؟؟