منى سلمان

ليلة كانت فيها الحبال بلا بقر


في موروثنا الشعبي، حفلت الكثير من الأساطير والاحاجي بمفهوم ليلة القدر، فهناك من يعتقد أنها طاقة من نور تفتح في السماء، لذلك سميت بـ(طاقة القدر) فيقال عن من يصيبها: (فلان انفتحت ليهو طاقة القدر)، وهناك من يختلط عليه الامر في سرعة الاستجابة للدعاء فيها، وكأن من يلتقيها قد اصاب عفريت مصباح علاء الدين، الذي يشير باصبعه للهواء فيجلب لك كنوز كسرى وذهب القيصر، او يلمس حوائط الخرابة التي تعيش فيها فتتحول الى قصر منيف، وكثير من حكاوي التراث في شأن هذه الليلة حفلت بالمبالغات والفهم المغلوط، كقصة الاعرابي الراعي الذي استيقظ من نومه على الضوء الساطع لطاقة القدر فضربته اللخمة واختلط عليه الامر، فبدلا من ان يطلب من الله ان يمنحه قطيعا كبيرا من الأبقار يسرح بها في الخلاء دون الحاجة لتقييدها بالحبال (بقر بلا حبال)، دعا الله ان يهبه (حبال بلا بقر) فاصبح ليجد نفسه ينام على تلة من الحبال .. عاد ده كلام بتعقل ؟!!
* كان نهارا غائما لم يعاني معه (ماجد) آلام الجوع أو العطش، وبعد الافطار شعر بخفة في جسمه وانشراح في صدره، فحدثته نفسه بأن يسعى لادراك صلاة التراويح بمسجد (سيدة السنهوري)، عساه يغنم بفضل صلاة الجماعة خاصة وانها احدى الليالي الوتر من العشر الاواخر في رمضان .. غادر البيت مسرعا بعد تناول فنجان القهوة مباشرة ليتفادى الازدحام، ويتمكن من حجز موقع استراتيجي في الصفوف الأمامية خلف الامام الذي تشد إليه الرحال ..
عاد من المسجد وقد اضمر في نفسه أن يقوم ليلته تلك، وطلب من زوجته (فطومة) أن تؤخر له العشاء، ثم عمد الى فراشه لينام بضعة ساعات تعينه على القيام، فقد شعر بأنها ليلة مميزة حرص على ان يناله من بركاتها جانب .. قام من نومته متفائلا فتناول عشاء خفيفا وأعقبه بكوبين من مشروب (الحلو مر) البارد اللذيذ .. حمل مسبحتيه (اللالوبة) و(الكهرمانية) وارد باب شريف في جدة، ثم جلس على مصلايته يصلي ويسبح ويبتهل إلى الله ويسأله من فضله العظيم، ولكن في الثلث الاخير اخذته لحظة من وسن استيقظ منها على ضوء ساطع ينير الحائط امامه ..
اخذه اضطراب عظيم، وحدثته نفسه بأنه نال أخيرا نعمة الالتقاء بليلة القدر وجها لوجه، فرمى بمسبحته الكهرمانية التي كان (يجردها) بتمهل قبل غفوته، وسحب (اللالوبة) وبدأ التسبيح بها بسرعة وتوتر .. (يمتّرها) (مترا) بعرض اتساع المسافة بين يديه، وكأنه يقيس طاقة من القماش ..
مع تزايد النور الذي بدا يغمر الغرفة، اخذه اضطراب عظيم واختلطت عليه الاولويات، وتزاحمت الامنيات على لسانه وتحير في ما يطلب من الله في ساعة سعده .. مزرعة ابقار أم مشروع الدواجن .. سداد الديون أم اكمال البناء .. دق السراميك للاوضة أم نجاح وفلاح العيال .. كثرة المال أم السترة وراحة البال ..
وفي خضم تكعبله في الـ (حبال البلا بقر)، تذكر زوجته (فطومة) التي تنام بالقرب من مجلسه، وحتى لا يضطر لمفارقة المسبحة صاح عليها من بعيد:
فطومة .. هوي ها .. قومي يا مرة ليلة القدر جاتنا !!
فانتفضت المسكينة من عمق نومها، وتربعت في منتصف السرير وقد رفعت كفيها للسماء تؤمن وراء دعواته المتلاحقات .. آمين .. آمين يا رب العالمين.
مع تزايد الضوء وتصاعد حمى الابتهالات، علا هدير ما من بعيد بدأ يطغى على صوت (ماجد)، مما دفعه للالتفات ناحية النافذة ليرى ضوءاً احمر واخضر يومض مقتربا في السماء ..
يا لخيبة الأمل فقد كانت الأضواء لطائرة تحلق بالقرب من المطار في انتظار الاذن لها بالهبوط، فبالاضافة لضجيج الاقلاع والهبوط، صار من ضمن عيوب السكن في شقة تقابل نوافذها الـ (run way) في المطار، ان يصيبك الالتباس فلا تفرق بين أضواء الطائرة وأنوار ليلة القدر .. نفضت (فطومة) يدها في قنعان وعادت لمرقدها وتكرفست تحنس النوم الذي طار، وعلى طرف لسانها سؤال جاهدت ان تمنعه من الخروج مراعاة لمشاعر (ماجد) المحبط:
هسي ناهزني من نومتي لي كشافات الطيارة ؟!!
(أرشيف الكاتبة)