حسين خوجلي

قد تسبق المباني المعاني وأخرى!!!


* إن أجمل مكاتب السودان هى ذات الطابق الأرضي مع حديقة مفتوحة وخضرة وزجاج سميك سعياً وراء الشفافية ولو شكلياً ومراوح فقط لا مكيفات لأن كل مكتب أو إدارة بمثل هذه المواصفات لا تكلفنا مالاً أو زمناً إلا قليل القليل مع عملية وبساطة وذوق وقلة من الأخيار المدربين
* ولكن سادتنا من الوجهاء والسياديين الذين تجمعت في أيديهم فجأة حزمة القرارات الإدارية والمالية والتنفيذية مع جرأة التخطيط والرسم الفني والإدعاء العريض، فقط صار من أوجب واجباتهم بناء العمارات والفيلل لوزرائهم ومقارهم فكأنما أزمة أزمات السودانيين هذه القناطير المقنطرة من الضانقيل والأسمنت والسيخ والألواح الحديدية والبلاط والسيراميك والفسيفساء والبوماستيك وكما تعلمون سحر البناء الجديد ألف حلقة تشد ألف حلقة بحلقات لا تنقضي والكوارث لا تنتهي وصيانات إلى أبد الأبدين أما مشكلات الصرف الصحي والصرف على الصحة في بلادنا فهذه إشكالات لا سبيل لادراك نهايتها ولو تواضعنا لقلنا ليس هنالك حتى سبيل لإدراك بدايتها
* والمباني في بلادنا دائماً ما تسبق المعاني، بل أنها في كثير من الأحيان ما تسبق حتي الأماني وحين تنقطع كل إمكانات الوزارة والمؤسسة وينقطع نفس خيل العوائد في هذه المشروعات المعمارية الهراء تنضب من بعد كل الموارد والميزانيات الواردة في حق رعايتها ونظافتها وتعطيرها وتسويرها لا تثويرها ولأن الحكايات هى أقصر الأساليب السودانية في السخرية والمضاهاة فلم أجد هنالك حكاية أمضى وأذكى دلالة على غياب برامجنا ونضوب خيالنا العملي وتطبيقاتنا من حكاية الأفندي الجائع مع مطعم القطاع العام المرفق بفندق عتيق تمت مصادرته ظلماً من أحد المساكين الشوام الذي لا يعرف حتى مغادرته السودان هل هو مسلم أم مسيحي أم يساري
فقد قال الشاهد أن موظفاً جائعاً قضى يومه في العمل أراد أن يتناول وجبة الغداء في مطعم قريب لمكتبه قبل أن تداهمه وردية أخرى وعمل مسائي وقد استوقفته لافتة ضخمة ومبنى مهيب عليه سيماء وعراقة وأعلام وصبيان وصبايا على المدخل ينادون على الجياع الذين يدفعون بذوق وينشون الفقراء كما ينش الذباب دخل الأفندي الجائع المطعم المؤلف من أربع طوابق دلف أولاً إلى الاستقبال الذي يتوسط الطابق الأرضي وقال للسكرتاريا التي تحرس المدير الصامت في صخب أرغب في تناول دجاجة مشوية، فأجابه مدير الطابق الأرضي نحن نعتذر يا سيدي فطابقنا هذا قد تم تشييده خصيصاً لاستقبال الدجاج الحي وخدمة لك من هنا أصعد للطابق الثاني
* ووجد الموظف الجائع في الطابق الثاني هيلمانة وحشم وخدم وسكرتاريا ومحاسبين وعاملات نظافة وعمال نظافة وفاتنات للعلاقات العامة والتسويق
* قال في هدوء ينم عن طبع ولوف وبطن خاوية من فضلكم دام فضلكم إنني أرغب في شراء دجاجة مشوية
فصاح مدير الطابق عذراً أيها الأخ الكريم هذا الطابق خصص فقط لذبح الدجاج الحي أصعد من هنا إلى الطابق الثالث وفي الثالث تقدم بثقة صوب السيد المدير الثالث وقال بذات الهدوء التاريخي إنني أريد يا سيدي دجاجة مشوية وبعد أن أكمل الجملة، هنا كادت بطنه أن تتمزق من شدة الجوع وكادت أمعاؤه أن تتقطع من قسوة الخواء قال مدير الطابق الثالث عفواء سيدي فهذا الطابق تم تشييده خصيصاً لتنظيف وتقطيع الدجاج بعد ذبحه حلالاً أصعد على بركة الله إلى الطابق الرابع ستجد مبتغاك توكل المواطن الجائع المسكين وصعد إلى الطابق الرابع وتقدم من مديره المحاط بذات القدر من الحاشية والمساعدين والسكرتاريا والمحاسبين، وقال منكسراً ومراعياً للبيروقراطية المتحكمة هامساً يا أخى إنني أتضور جوعاً منذ الصباح وأريد فقط دجاجة مشوية من حر مالي وقد فرجت فقد تنفس الموظف الجائع الصعداء وكاد أن يتقافز من الفرح حين قال مدير الطابق الرابع كلمة نعم ورددها نعم هذا هو الطابق المخصص للشواء والقلي والطبخ على أرقى المستويات العالمية لكن كل هذا المطعم بطوابقه الأربعة ليس فيه للأسف ميزانية للزيت والغاز ولا الفحم البديل لكى نطبخ به الدجاج إلا المخزون الاستراتيجي الذي يستخدم لوجبات المدراء ورؤساء مجالس الإدارات
لكن قل لي بربك ما رأيك في النظام قالها بانجليزية خائرة أعنى (السيستم)؟
* وهل هنالك عزيزي القارئ حكاية أصدق من هذه تفي بمماثلة الخدمة العامة والوزارات والولايات في بلادنا و(الهنايات والبتاعات) هل؟
ولا سنتمتر واحد
* ولأن العهدة دائماً على الراوي فقد حكى الأستاذ الشيخ المحاسب علي السراج مدعياً أن عابدين درمة حفار القبور المبروك بأحمد شرفي وقف ذات مرة لدفن جثمان أحد أهالي ودنوباوي وقد توفاه الله بإحدى العواصم الأجنبية وقد حضر مراسم الدفن الرئيس السابق المشير جعفر نميري الذي وقف غير بعيد من القبر وقال ناصحاً يا بني عابدين القبر دا ما بشيل الجثمان وسِّع شوية؟ فقال عابدين يا ريس الصبر نحنا بحكم ممارستنا أصبحنا نعرف مساحة الصندوق السعودي والأماراتي والمصري والانجليزي وحتى الأمريكاني فلا تخف عليه ولا علينا لكن الرئيس جعفر نميري لم يرضى الرد النزق فهاجم درمة ووصفه بأوصاف غليظة لكنها على أى حال لا تخرج عن الذوق العام ووقار المناسبة وقاموا الجماعة في وجه عابدين درمة وأسكتوه
* وفعلاً لم يزد درمة كلمة واحدة ولكنه أيضاً لم يزد القبر ولا سنتمتر واحد وبهدوء أنزل الجثمان المغلف بصنعة الأجنبي وتم الدفن بسهولة وسط دهشة الحضور وبعد الدعاء والاخلاص والفاتحة وبعد أن بانت كفاءة عابدين درمة المفحوصة والمشاهدة أمام الجميع فقد اقترب في هدوء من الرئيس جعفر نميري قائلاً
مشكلتك يا ريس إنك كتّلت نعم لكنك ما دفّنت
ورغم جلال المناسبة فقد ضجت المقابر بالضحك ونصفها وبعض الابتسامات
لاحظ عزيزي القارئ أن التاء في كتّلت مشددة والفاء في دفنت أيضاً.