احلام مستغانمي

ما تركوا لنا فرصة ضمّهم مرّة أخيرة (2)


في الحرب العالمية الثانية ، قُدرت خسائر روسيا وحدها في الأرواح ب26 مليون قتيل ، 8 ملايين منهم فقط كانوا عسكريين . هذا يعني أيضاً أن روسيا
كما غيرها من الدول ، لم تكن معنية بعلاج الجرحى ، ولا بخفض عدد القتلى ، فلقد كان البشر يومها بالنسبة لكل البلدان وقوداً بشرياً للحرب ليس أكثر . لذا ألقي ب50 مليون إنسان في أتون حروب خاضها العالم لرسم خريطة جديدة لحدود قوته . لفرط فائضه ، اخترعوا للموت نصب ” الجندي المجهول ” ليضعوا عليه إكليل ورد في المناسبات ، نيابة عن الملايين النكرة الذين دفنوا في المقابر الجماعية في تلك الحرب المجنونة .
ولأن العالم تغيّر ، شاهدنا إسرائيل تخوض حربين إكرامًا لجندي واحد . ليس لأنّ الفتى شاليط استثنائيًّا أو مهمًّا إلى هذا الحدّ، بل ليعلم كلّ مجنّد و مواطن إسرائيلي أنّه عزيز و غالٍ على وطنه إلى هذا الحدّ. فحتى أشلاؤه عند المقايضة تساوي حياة أكثر من ألف فلسطيني .
أماّ عندنا فثمّة أوطان يصبح فيها الناس شهداء قبل أن يغدوا مواطنين. على غرار تلك التي لم تَحسم يوماً عدد موتاها في الحروب ، فعددهم يظلّ تقريبي قد يزيد أو ينقص بعشرات الآلاف . كيف بإهانة الشهيد نبني أوطانا ، بينما هو رمز وطني في حد ذاته ، له في الوجدان سلطة الغياب ، وعنفوان الوطن . ذلك أنّ الوطن يساوي ما يساويه رجاله ، وأغلى أبنائه من مات فداه ، كي يمنح غيره فرصة الحياة بكرامة .
علينا أن نكون عند حسن ظن الشهداء ، فلا خيانة أكبر من أن نخدل من مات ليذود عناّ. الشهيد لا حاجة له إلى نياشيننا وأناشيدنا . تكريمه في أن نجعل من أبنائه أبناء لنا ، ومن وصاياه أمانة في أعناقنا . حيث هو في جنة الخلد لا يحتاجنا .
ليس الذين يموتون هم التعساء ، بل الذين سيعيشون بعدهم ثكالى، يتامى، ومعطوبي أحلام . لا شيء يعوّض خسارة الراحلين لدى ذويهم ، سوى أن نكون لهم الأهل والحضن والسند . وأن نعترف بجميلهم علينا خارج المناسبات ، عندما سعادتنا البسيطة تذكرهم بخساراتهم الفادحة .فيستيقظ حزنهم ولا ندري بذلك .
الشهداء أشجار باسقة تعلو لحظة تُوارى التراب ، من حيث هم تصلنا رطبهم وهباتهم . لذا يحرجوننا حد البكاء . .لأنهم لم يتركوا لنا فرصة أن نضمهم للمرّة الأخيرة . . ونقول لهم ” شكراً ” .