هيثم كابو

عودة لأسطورة الزهرة


* لم يكن مفاجئاً بالنسبة لي تدافع الآلاف من الشباب الإثيوبي وبعض السودانيين الذين تقاطروا أفواجاً مطلع العام قبل الماضي لحضور حفل الفنان الإثيوبي الأسطورة تيدي آفرو بناديي الأسرة وقوات الشعب المسلحة في الخرطوم.. ذيوع صيت ريحانة الغناء الحبشي وتربعه على سدة عرش فناني أفريقيا بات أمراً لا جدال عليه، كما أنه (فات كبار القارة والقدرو) عندما سار على درب مريم ماكيبا وأستير، بل وتخطت ألبوماته أرقامهما القياسية في التوزيع والمبيع، غير أنه قفز بسرعة الإفلات عندما حجز لصوته مقعداً وثيراً في الصفوف الأمامية لمطربي العالم!
* أفسدت يومها على نفسي متعة الاستمتاع بصوت تيدي الطروب الشجي؛ وموسيقاه المعبرة الصاخبة؛ وإبداعات فرقته الموسيقية التي تتحدث مع الآلات بطلاقة ساحرة أكثر من كونها تعزف عليها بأنغام تسد الفضاء.. فيروس الصحافة عندما يغزو الجسم تصبح لكل حدث أبعاد؛ ولكل محفل دلالات أخرى، لذا ظللت أطوف بعيني وأتفرس وجوه آلاف الحاضرين وكأني أبحث عن رفيق تواعدنا أن نلتقي في ساحة الحفل وانقطعت بيننا حروف الوصل وخيوط الاتصال.. كانت التساؤلات التي تقفز علامات استفهامها من خلفية الذهن لتحاصر مربع التفكير:
(ما الذي يدفع معظم الشباب الإثيوبي الموجود بالخرطوم لدفع مائة جنيه للترفيه في حفل غنائي إن لم يكن هذا المغني الضجة استطاع أن يصبح شريكاً معك في كل مليم تدخره لتدفع قيمة التذكرة مهما كان ثمنها غالياً بالنسبة لك عن طيب خاطر وينتابك شعور بأنك (ادخرت) لحظة فرح لتتزود بها في قادم الأيام و(لم تدفع) شيئاً يذكر..؟؟.. أليست الحقيقة أن معظم إخوتنا الإثيوبيين الموجودين في السودان من ذوي الدخل المحدود؟.. ألا ينبغي أن يشعر فنانونا (المحليون) بالغيرة الإيجابية فرغم تاريخ الفن السوداني الطويل لم تخرج أغنيتنا من نفق المحلية وإن تعاطاها بعض جيراننا الأفارقة في حيز لا يتوازى وعراقة الكلمة المموسقة عندنا)..؟؟
* أثار بعض المثقفين في مجموعة (قضايا الفنون) على (الواتساب) قضية محلية الأغنية وقلل بعضهم من الاختراقات التي أحدثها المطربون الإثيوبيون لأن أمسيات أديس أبابا تتعاطى الغناء السوداني باستمرار ورأيت ضرورة إعادة نص ما كتبته قبل شهور عبر هذه المساحة كاملاً على خلفية التجني الأخير على الأشقاء الإثيوبيين.. قلت للأعزاء في المجموعة يومها إن الكل من حولنا يتقدم في معظم المجالات ونحن للأسف (محلك سر).. إثيوبيا التي كانت ترقص بساق واحدة على أنغام (كبرتي وليك تسعتاشر سنة) للفنان الراحل محمد وردي ها هي تقدم كتاب نبوغها الفني عبر وصول صوت الأسطورة تيدي آفرو لكل العالم بعد أن خطف ابن (الزهرة الجديدة) انتباهة الأمريكان وسحرهم بأغنياته باللهجة الإثيوبية متجاوزاً حاجز اللغة، ونحن نلوك في حديث ساذج عن محاربة العالم العربي لنا، والأصوات المسكونة بالإرادة تتعدى الإقليمية لتسجل أسماءها في السجلات العالمية.. (وشباب قنع لا خير فيهم.. بورك في الشباب الطامحين)..!!
* تحدثنا من قبل كثيراً عن كيفية الخروج بالأغنية السودانية من نفق المحلية والتحليق في فضاءات الإقليمية والعالمية، وقللنا من قيمة الحديث المتكرر عن محاربة الإعلام العربي للغناء السوداني لأن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد أوهام انتفخت بالوناتها وكبرت مع مرور السنين حتى بات البعض منا يحسبها واقعاً ويتعامل على أساسها، فالفضائيات أضحت مشاريع تجارية استثمارية في المقام الأول وتلاشت فكرة الأجندات والإقصاء للغناء السوداني على حساب المصري والخليجي واللبناني.. القصة باتت تحركها الآن رؤوس أموال عينها على (الإعلان) وكثافة الرسائل القصيرة (sms) وتسابق الشباب للمشاركة في شريط (الشات) أسفل الشاشة وكل عمل يحقق مشاهدة عالية ويجذب المعلنين والشباب فإنهم لن يتوانوا لحظة في بثه بل وإنتاجه إذا لزم الأمر..!!
* مشكلة محلية الأغنية السودانية تتلخص في محدودية سقف طموح الفنانين السودانيين الذين لا هم لهم سوى تحقيق الشهرة داخلياً، وانعدام الجرأة وتهيب الاقتحام وانتظار القنوات الفضائية حتى تأتي وفودها لتطرق أبواب منازل الفنانين، فالحديث عن تميز الفن السوداني وثرائنا الموسيقي وتراثنا المتنوع ومخزوننا النغمي الكبير تسبب في إصابتنا بـ(تضخم زائد) وجعلنا نخلف رجلاً على رجل وننتظر يوم الفتح العظيم الذي لم يأتِ ولن يأتي ما لم نسع جادين لتقديم أنفسنا للعالم.
* غنى تيدي آفرو وأجبر الكل على احترامه إن كان عبر إيقاع (الريقي والزار) أو من خلال دعوته المتكررة للتسامح الديني باعتباره فنانا صاحب قضية.. لم يكن طريقه مفروشاً بالورود وهو يرتدي (تي شيرتات) عليها صور الإمبراطور هيلاسيلاسي.. موقفه السياسي جعله يدفع فاتورة باهظة التكلفة.. دخل السجن بتهمة دهس أحد المارة وهروبه في تلك الواقعة التي اختلف الناس على صحتها وخرجت مسيرات هادرة تطالب بإطلاق سراحه ليأتي خبر تخفيف العقوبة برداً وسلاماً على محبيه.. منعت أجهزة الإعلام المحلية بث أغنياته في إحدى الفترات لمواقفه السياسية فإذا بصوته يخترق الأذن الإثيوبية عبر كل الفضاءات..!!
* بربكم، دعونا نتجاوز مربع المكابرة.. وليتعلم مطربونا من هذا الشاب الإثيوبي الفلتة معنى الإرادة، أو يرفعوا راية الاعتزال وكفاية عكننة مزاج (وبلاش إزعاج)..!!
نفس أخير
* لا نزال نحن غارقين في الجدل والنقاش، وأهلنا الأحباش وصلوا للعالم أجمع ولم يكتفوا بعبور القاش!.