حوارات ولقاءات

دكتور “غازي صلاح الدين” رئيس (حركة الإصلاح الآن):كنت لا أعبر عن آراء “الترابي” الفقهية لأنني أحياناً لا أرى ما يراه..توحيد الإسلاميين فكرة نبيلة أثيرت في الزمن الخطأ


{ بعض الناس عدّوا أنك في سياق التحولات التي تحدث للإنسان بدأت تقدم نفسك بطريقة جديدة ربما تتجاوز فيها تجربة الإسلاميين.. وآخرون قالوا إن سعيك لجمع الآخرين اتخذته مخرجاً بعد أن مرت حركتكم بعقبات.. أي الرأيين أصوب؟
_ كلاهما صحيح، وهي من طبيعة البشر، الإنسان الذي لا يتعلم من تجاربه ويستقي حكمة من أحداث حياته إنسان متبلد، لا شك أن الوعي في السياسة اليوم هو أعمق وأكثر نفاذاً مما كان قبل (30) عاماً، هذا شيء طبيعي، فلابد من التفاعل بدلاً عن التجاسر على الحقيقة واعتبار أن شيئاً لم يحدث والتحول إلى كائن جامد متحجر.. أن يتفاعل الإنسان مع التجارب التي تتراكم ويستقيها من أحداث الحياة هذا شيء جيد، لكن قيمي الأساسية لم تتغير، لا تزال قناعتي أن الإسلام حين يقدم بصورة صحيحة يمكن أن يساهم في سلام البشرية وازدهارها ويقدم حلولاً في الاقتصاد والسياسة وأبواب المعرفة كلها. وأدرك أن هذا لم يحدث من خلال التجربة التي شاركت فيها ولكن هذا لا يعني أن التجربة حتى بأخطائها لم تكن ذات فائدة.. بالنسبة لي استفدت منها جداً، وأحاول أن أطور نفسي وأنا في هذا العمر من خلال القراءة والتدبر، وأنوي الكتابة في مستقبل الشهور القادمة إن شاء الله حتى يستفيد الآخرون، لكن من الطبيعي أن يتفاعل الإنسان مع الخبرة التي يكتسبها والحكمة التي تتراكم لديه ومن تطور أحداث الحياة.
{ يلاحظ أنه على مستوى الفعل السياسي أصبح خطابكم بعيداً عن الخطاب الإسلامي؟

_ هذا انطباع خاطئ، قيمي هي نفس القيم، والتزامي هو نفس الالتزام. ومن السهل أن يقول إنسان إنني تركت ما كنت فيه لأتكسب ود الخصوم، لكن هذا ليس من طبعي أنا أجادل من أجادل سواء أكان من ينتمون إلى الحضارة الغربية من غير السودانيين أو السودانيين المخالفين سياسياً، أجادل بقناعة ومن منظور الإسلام، وأجادل ولديّ ذخيرة من التجربة في هذا الصدد. ولكن في قضية المصطلح مثلاً أنا أقول ناقداً لتجربتنا إننا كنا دائماً نتبنى مصطلحاً صعباً معقداً بعيداً من مزاج المجتمع.
{ لماذا لم تعبروا بلغة قريبة من المجتمع؟
_ كنت أفضل لو أنني كنت أملك لغة أبسط من لغتي الحالية التي ربما تصلح لكتابة علمية أو فكرية. هذا شيء، الشيء الثاني أنا مدرك، لأن الطريقة التي يقدم بها الإسلام الآن، خاصة تلك التي تتبنى مناهج عنف منظمة ومسلحة بحجج تظن أنها من الدين، هذه الطريقة يجب أن تقاوم وتدحض بالحجة وبالمثال العملي. ينبغي أن نقدم الإسلام بصورته الحقيقية التي قدمها به الله سبحانه وتعالى والتي كانت عليها سنّة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا طبعاً باب من العمل واسع جداً، وصعب.
{ أين تكمن الصعوبة؟
_ صعب أن يعيد الإنسان تقديم فكرة ودين عظيم كالإسلام مرة أخرى بصورة مختلفة مما قدمها به، هذا صعب للغاية، لكن أنا لا أرى خطأ في أن نقدم نفس القيم والمعاني والمضامين بلغة أكثر خصوبة وإنعاشاً (ليس لغة بائتة أو قديمة). كذلك أعتقد أن التاريخ الإسلامي يجب أن يقرأ بصورة نقدية، كما نقرأ التاريخ الإنساني العام، حتى نستخرج منه الحكمة اللازمة لتعيننا على أن نخطط للمستقبل، وهذا في وقت ما كان يعدّ مطلباً بعيداً لا يمارسه إلا القلة من المتبحرين في السيرة والفكر الإسلامي.. أنا لم أغير شيئاً من هذه القناعات والمبادئ.
{ هل الإقبال على الآخر يأتي في سياق سياستكم الانفتاحية؟
في ما يتعلق بالانفتاح نحو الآخر، لم أعتقد في أية مرحلة من مراحل حياتي أنه شيء سيئ. العقبة كانت في الطبيعة الشخصية، مثلاً أنا مدرك أنني لا أنفتح عاطفياً بسهولة تجاه أي آخر، خصم أو صديق. هذا شيء موجود في طبائع البشر، لكن الذي يعمل في العمل العام عليه أن يتجشم الابتسامات والانشراحات على مدار الساعة، وهذه موهبة ليست لدى كل الناس.
{ في بداية عملكم السياسي كنتم لا تجلسون مع من يختلف معكم فكرياً عكس الآن؟
_ هذا غير صحيح إطلاقاً، وهو انطباع خاطئ للغاية. حتى عندما عشت في الغرب كانت سياستي هي مجالسة الآخرين ومشاركتهم في كل منشط، إلا ما كان حراماً. الإسلام يحضنا على المخالطة والصبر على الأذى الذي قد يترتب عليها، نحن لا نجالسهم في الحرام.
{ (حركة الإصلاح الآن) ولدت على ضوء متغيرات سياسية.. ما طبيعة توجهاتها إسلامية أم ماذا؟
_ من حيث العضوية هي حزب مفتوح للجميع، أما بالنسبة للإسلام فوثيقة التأسيس تنص على تعريف إيجابي للإسلام ولدوره من حيث كونه منظوراً كلياً للمبادئ والمرجعيات الست التي أثبتناها في وثيقة التأسيس. هذا التعريف المفصل للإسلام في الوثيقة يتجنب اختزال الإسلام في التعريف القانوني الذي تلخصه عبارة “الشريعة مصدر التشريع”. الإسلام دين شامل، يهتم بمسألة التشريع لا شك، لكنه يدعو إلى الحوار والتعاون مع الآخرين على البر والتقوى، وينهى عن العدوان، والإفساد في الأرض وتخريب البيئة، ويحض على العدل وعلى حفظ الحرث والنسل، وعلى حقوق الإنسان التي يسميها الحرمات، بل وحتى على حقوق الحيوان، ويدعو إلى الشورى والحريّة. التعريف الإيجابي الشامل للإسلام هو المقاربة الصحيحة، بدلاً عن إهمال تعريفه جملة واحدة وترك تلك المهمة للغلاة والمتطرفين، وبدلاً عن أن نعرفه تعريفاً ضيقاً في عبارة نمطية واحدة. ولا نرى تعارضاً بين هذا وبين أن تكون لنا قيم في تبني الشورى والديمقراطية ونظم الحكم الحديثة التي تحقق العدل، لأن الشرط الأول والنهائي في الإسلام في الحكم هو العدل، فإذا كانت هناك آليات مستقاة من التجربة الإنسانية الواسعة تحقق العدل بأفضل مما تحققه الأنماط السابقة حتى لو كانت تلك التي نتبناها نحن في العالم الإسلامي باسم الإسلام، فهذا مدعاة إلى تبنيها.
{ هل لديك مثال؟
_ على سبيل المثال في مجال الإدارة إذا وجدت نظماً حديثة في الإدارة تحقق العدل بصورة أفضل هذه حكمة إنسانية يجب تبنيها، كما فعل سيدنا “عمر ابن الخطاب” عندما دون الدواوين التي كانت تتخذ في فارس والروم وهي نفس دواوين الدولة الحالية، والفكرة برمتها مأخوذة من الحضارة الرومانية والحضارة الفارسية لكنه استوعبها دون أية عقبة وعقدة، لم يقل هذا تدبير من قوى الكفر وما إلى ذلك.
{ إلى أي مدى أنتم مستعدون للاهتداء بحكمة الآخر؟
_ الأفق منفتح أمامنا وسقفنا السماء فيما نختار ونعد، وفي اعتقادي الذي يتمسك بالدين والإسلام بصورة عامة يمتلك بالضرورة طاقة كبيرة يمكن أن توظف سلباً، ويمكن أن توظف إيجاباً، ونحن نسعى إلى أن نتبنى أطروحة تقول إن الدين ينظر إليه نظرة إيجابية منذ البداية.
{ ما رأيكم في دعوة توحيد الإسلاميين التي أطلقت مؤخراً؟
_ هذه القضية تثار دائماً في الوقت الخطأ، وهذا لا يعني أنها خطأ، هي مطلب نبيل جداً وأنا أفتخر وأتشرف أن أكون أحد الذين يوحدون الكلمة إذا قدر لي ذلك، ولكن الطريقة التي كانت تطرح بها في سياق الجدل السياسي أعطت إيحاءً بأن الإسلاميين يريدون أن يحوزوا الثمرة مرة أخرى لأنفسهم ويجروا تصالحاً فيما بينهم وتجسيراً للهواة ويتركوا بقية الشعب وبقية السودان.
{ ماذا ترى أنت؟
_ أنا كنت أقول، والشيخ “الترابي”- رحمه الله- كان يقول نفس الكلام وإسلاميون آخرون عقلاء يقولون نفس الكلام، إن هذا مطلب شريف لا غبار عليه، لكن الأولوية الآن في إصلاح المعادلة والتركيبة السياسية السودانية ثم من بعد ذلك دع الإسلاميين يتحدون، والاتحاديين يتحدون، وفصائل حزب الأمة تتحد، واليسار يتحد لا غبار على ذلك.
{ أنت تعتقد أن توحيدهم ليس أولوية الآن؟
_ ليس أولوية، بل قد يرسل رسالات خاطئة الآن. أقصد أن عرض المسألة بهذه الصورة يغيّب جانبا مهماً من الصورة، فالذين يحتاج أمرهم لمعالجة بالأولوية هم السودانيون البشر، والسودان البلد. أي معالجة كهذه لا غبار عليها إذا جاءت تالية في سلم الأولويات لمعالجة الوضع العام.
{ هم يتحدثون عن تحديات تواجه الإسلاميين.. كيف يمكن تجاوزها؟
_ يمكن أن يكون هناك تنسيق إستراتيجي في العمل بين الإسلاميين. خذ عندك مثلاً مسألة مهمة تجري بين أعيننا هي الحوار الوطني، لا يوجد فيها حتى تنسيق بين الفصائل الإسلاميين. لا بأس في ذلك، لكن السؤال التالي سيكون، لماذا لا ينشأ تنسيق بين الإسلاميين وغير الإسلاميين في ذات الموضوع، إذا أقمنا هذه المعادلة يمكننا الحديث عن وحدة الإسلاميين كناتج جزئي من الناتج الأكبر، وهو المواطنون والبلد الذي يجمعهم.
{ ربما أيضاً ما حدث في مصر للإسلاميين دفعهم لهذا الطرح؟
_ عندنا في السودان ليست الحالة مشابهة، ولكن حتى هذه الحالة لا أعتقد أن الإخوان في مصر أخفقوا من تلقاء أنهم لم ينسقوا مع بقية التنظيمات الإسلامية وإنما أخفقوا لأسباب أخرى، لكن النقد الذي وجه لكثير من العلمانيين والحركات العلمانية كان صحيحاً، أنهم لم يقفوا الموقف المبدئي الصحيح في قضية الانقلاب، وهذا يثير علامة استفهام على بعض هؤلاء، أمثالهم لدينا هنا في السودان الذين يتحدثون عن الديمقراطية وفي الحقيقة تاريخهم لا يسعفهم في هذا الادعاء.
{ هل قدمت لك دعوة وحدة الإسلاميين؟
_ لا توجد دعوة أساساً من مؤسسة رسمية.
{ ولا من الناشطين في هذا الشأن؟
_ نتقابل في المناسبات، لكن لم يحدث نقاش بصورة جدية في هذه القضية.
{ إلى أي مدى أنت مستعد للمشاركة فيها حال انتهت مرحلة الأولويات؟
_ أفضل أن نترك ذلك للمستقبل، لكن هذا الأمر شخصي ولا علاقة لـ(حركة الإصلاح الآن) به.
{ لاحظ الناس أن علاقتك بـ”الترابي” كان فيها شيء من الالتباس رغم أنك من أقرب الناس له فكرياً؟
_ هو ليس فقط أستاذي، لكن له أفضالاً شخصية عديدة عليّ تجعله في أي خلاف صاحب الكلمة النهائية والكاسب حتى قبل أن يبدأ الجدل. وأنا ذكرت هذا الكلام مراراً وتكراراً حتى لا يختلط السياسي بالشخصي. صحيح أنه حدث خلاف سياسي حاد (نسبة لطبيعة ساخنة فينا كلينا) في فترة من الفترات كانت له أسبابه، والوقت الآن غير مناسب للحديث عنه.
{ ألم يؤثر هذا الخلاف على علاقتكما؟
_ من جانبي أنا لم يؤثر في تقديري واحترامي له في شخصه، أنا كنت حريصاً جداً للتواصل معه، والنَّاس ربما يذكرون المراسلات بيننا عندما كان في المعتقل وكلها تفيض بأشواق الوحدة والتعافي. وحتى لما نشأت (حركة الإصلاح الآن) عدد المرات التي طلبنا فيها مقابلته خلال عام كانت سبع مرات وذهبنا إليه وتحدثنا معه حول الشأن العام وحول الحوار الوطني، أما في الجانب الاجتماعي فأصلاً نحن لم ننقطع عن بعضنا البعض في كل المناسبات.. صحيح حدثت مشكلات واختلافات في فهم بعض القضايا والتعامل معها لكن ذلك لم يقلل من قيمته ومعدنه بالنسبة لي منذ أن عرفته، وشرف بالنسبة لي أنني كنت قريباً منه وقد تعلمت منه شيئاً كثيراً.
{ كيف استقبلت نبأ رحيله؟
_ لا شك أن رحيله كان مفاجئاً بالنسبة لنا في وقت كلنا يعلم أن الساحة السياسية كانت تحتاج إليه، وأحزنني هذا الرحيل وعبرت عن ذلك في وسائل إعلامية عديدة، وهو في النهاية كما ذكرت في المقابلات كان إنساناً له أخطاؤه ونجاحاته، ولكنه كان إنساناً متميزاً بمعنى الكلمة من النادر أن يأتي الزمان بشخصية تتكامل فيها قوة الشخصية وقوة الرأي والفكر وقوة الاقتحام والجدل من منطلق إسلامي.. أعتقد أنه نجح لحد كبير أن يضع بصماته في التاريخ.
{ متى كان آخر لقاء معه؟
_ التقيته بعد عودته من قطر ذهبنا له للتهنئة للعودة بالسلامة، والتقيته يوم (الجمعة) بمسجد القوات المسلحة في مناسبة عقد القران التي مات بعدها، وكان كعادته متدفق الأفكار والكلمات وكان يبدو في صحة جيدة، لكن الحقيقة أنه في تلك اللحظة كان يموت.
{ هل شعرت أن هناك حديثاً لم يكتمل معه؟
_ نعم.. أحاديث كثيرة.
{ شخصية أم عامة؟
_ في الإطار الشخصي والعام أكثر، لكن طبيعتنا نحن الاثنين، وهو على الوجه الأخص، لم تكن تسمح بالاندلاق العاطفي إذا جاز التعبير.
{ رغم أنك قريب من “الترابي” فكرياً إلا أنك لا تتحدث عن آرائه الفكرية واجتهاداته الفقهية؟
_ صحيح حتى لما كنت قريباً منه وأعد من تلامذته، لا أدري لكن كنت أشعر أنني أعبر بطريقة مختلفة، يعني أتأثر به لكن أعبر بطريقة مختلفة، لم يكن عملاً مقصوداً لكني كنت ألاحظ ذلك، ولعل هذا كان شيئاً حسناً بمعنى أنه لا يمكن لشخص أن يكون نسخة من شخص آخر أو ليس شيئاً جيداً أن يكون شخص نسخة من شخص آخر، حتى التلميذ مع الأستاذ لابد أن يتميز بطريقته ومنهجيته.
{ عدم التعبير نابع من احترام أم اختلاف معه؟
_ بصورة عامة نعم، لكن هناك أسباب، أحياناً أنا لا أرى ما يراه هو لكن أنا لا أعد نفسي فقيهاً مفتياً وبالتالي لا أحب أن أعترض عليه في هذه المسائل وأستحسن من آراء الفقهاء ما أفهمه، فقد أختلف معه في بعض القضايا، لكنني كنت لا أرى مصلحة في الجدل معه في المسألة المطروحة. هو كان يستند إلى منهجيته الخاصة وكان مجازاً عند الناس أنه مُفتٍ. أما أنا فلست مجازاً عند الناس ولا عند نفسي بأنني مُفتٍ ولا أحب أصلاً أن أكون مفتياً ولا أنصب لنفسي مقعداً أو مجلساً للفتوى.
{ ماذا استفدت منه؟
_ من منهجية تفكيره، ومحاولته لإيجاد مغزى للأشياء ورؤية وهداية للعبادات التي نتعامل معها عادة بغير تفكير كالصلاة والصيام وكالسياسة والدولة على حد سواء، هذا حديث يطول.
{ قيل إنه دعاك للمنظومة الخالفة؟
_ هذا غير صحيح، وأنا لا أدري إن كانت هناك منظومة خالفة، قيل إنها موجودة، ربما كان يدخرها لوقت لاحق حتى يعرضها علينا، لكن أنا لا أعرفها.
{ حال تمت دعوتك للانضمام هل ستوافق؟
_ إذا دعيت إلى شيء لابد أن أتبين ما الذي دعيت إليه.

حوار – فاطمة مبارك

المجهر


تعليق واحد