يوسف عبد المنان

خربشات (الجمعة)


(1)
قليلة جداً لحظات الصفاء وجلسات الأنس التي يختلس فيها المرء بهجة السمر تحت ضوء القمر، بعد أن صارت الحياة إلى (روتين) ممل وسهر وأرق وكدح ولهث وراء (أم رقيقة)، ومن طرائف وجماليات تعبيرات الراحل “أبو آمنة حامد” في ذاك اليوم التقينا بالقرب من بناية بنك “فيصل الإسلامي”، أنا في طريقي من (ألوان) إلى قلب السوق العربي.. وهو يسرع الخطى مع ابنه “جمال عبد الناصر”.. كان في معيتي أحد الشباب تزوج من فتاة جميلة في نظري ونظره!!
طبعاً الجمال له علاقة بالمكان والزمان والثقافة والمناخ.. طلبت من أستاذي “أبو آمنة” مباركة زواج ذلك الشاب.. ففعل ولكنه نظر للعروس بعين الشاعر الذي أرهقه مسير البحث عن لقمة الخبز الحاف، فقال للعروس أنت جميلة!! فابتسمت ولكن “الرغيفة” أجمل منك فتجهم وجهها.. سألته كيف ولماذا يا أستاذ هي أولوياتي الآن.. الرغيف أحب إليّ من الفتيات الفارسيات وبنات الأمهرا، وعلى ذكر الأمهر كانت جلسة البهجة والأنس في مقهى السودانيين في قلب العاصمة أديس أبابا (حي يولي).. انفض سامر المفاوضات و”د. أمين حسن عمر” يطلب منا أن نتوجه إلى المطعم السوداني ولنا فيه مأربين، الأول تناول عشاء “د. أمين حسن عمر” من الفول المصري بزيت السمسم، ومشاهدة مباراة الكلاسيكو بين برشلونة وريال مدريد.. كان “د. أمين حسن عمر” أقرب لتشجيع زملاء “رونالدو” و”كروس” و”بنزيما”، ومعه في ذات المركب – أي حب الملكي فريق الارستقراطيين الأسبان – الدكتور “محمد مختار”.. ولكن في الطرف الآخر وقف اللواء “دخري الزمان عمر” مع فقراء أسبانيا المطالبين بحق تقرير المصير.. لأن “دخري الزمان” قد تأثر بفواجع دارفور وصار مثلهم.. بينما الأستاذ “متوكل” مدير مكتب “د. أمين حسن عمر” يموت في عشق برشلونة الذي أمطر مرمى الريال بأهداف “سواريز” الفتى الأرغواني الاستثنائي “ونيمار” البرازيلي”.. حسم برشلونة الكلاسيكو مبكراً، وبكل أسف وأسى فقدنا مع تلك المباراة متعة مباراة ليفربول وألمان سيتي التي جرت في ذات التوقيت وانتهت بهزيمة ماحقة جداً لأثرياء العرب تحت أقدام فقراء الإنجليز.. وبطريقته الساخرة قلل “د. أمين حسن عمر” من تبريرات أسباب عشقي وآخرين لبرشلونة باعتباره الفريق الذي يمثل المهمشين الأسبان.. ويقول أنتم في السودان مهمشون حتى تدعوا نصرة التهميش في كل مكان.
إقليم كاتلونيا اليوم من أغنى أقاليم أسبانيا بفضل فريق كرة قدم اسمه برشلونة.. انتهت المباراة وجلسنا في الساحة الخارجية للمطعم السوداني نحتسي القهوة والشاي ويتوسطنا الجنرال السفير “محمد مصطفى الدابي” مدير الأمن والمخابرات الأسبق ومدير العمليات (يحكي) بطريقته التي تتمازج مع الابتسامات الساحرة بجدية وحسم الجنرال عن ذكريات الحرب في جنوب السودان وجبال النوبة.. وفرسان المسيرية.. وكيف خاضت قواتنا الباسلة عمليات صيف العبور.. ولماذا تحقق النجاح.. وكيف أهدر السياسيون فرصة فرض شروطهم والتوقيع على اتفاق سلام.. والحكومة المركزية في موقف قوي جداً والحركة الشعبية على حافة السقوط والانهيار.. ويقول الجنرال الجيش يؤدي واجبه ويقهر التمرد ويكسر ظهره، ولكن السياسيين يهدرون الفرص تباعاً.. جالت بخاطري ومخيلتي قصص وحكايات الجنرال “الدابي” الرجل الودود المثقف الشفيف الإنسان، وقد تواترت الأنباء من مسارح العمليات عن انتصارات كبيرة حققها الجيش في جنوب كردفان، وفي انتظار التوقيع قريباً على اتفاق سلام ينهي الحرب بعد أن (نتف) الجيش ريش التمرد وكسر عظمه، وفي ذات الوقت تواتر نبأ الخارجية عن أخبار الجنرال “الدابي” لتولي منصب السفير في “اليمن السعيد”.. و”الدابي” من الرجال الذين يتشرف بهم منصب السفير.. خبرة طويلة ممتازة.. وخلق قويم وكرم ورقة إحساس، وومضة خاطر ما بين الجنرال “الدابي” والجنرال “عثمان السيد” كثير من الملامح والشبه في السلوك وحتى (الخدرة الدقاقة).
(2)
هل يمثل “د. منصور خالد” الوجه السياسي لمدرسة ثقافية عرفت في التاريخ بمدرسة الغابة والصحراء التي كان “محمد عبد الحي” و”محمد المكي إبراهيم” من روادها ومشاعل نورها.. وكُتاب تاريخها.. ولن ننسى بالطبع الهرم والقامة “النور عثمان أبكر”.. حاولت السياسة أن تلون ثوب تلك المدرسة بلون أحمر (قاني) وصبغها البعض على عجل بالشيوعية، ولكن القارئ لما كتبه رواد تلك المدرسة، لن يجد أثراً حتى للاشتراكية الأفريقية التي كان من روادها في ذاك الزمان “جيلوس نايريري” في تنزانيا، و”كوامي نكروما” في غانا.. وإذا كان “د. منصور خالد” قد ظل يدعو سياسياً للعودة للجذور وتنمية تكوينا الأفريقي توازناً مع ثقافتنا العربية.. من أجل تحقيق توازن الذات في الشخصية السودانية.. فإن الدارس لبوادر النهضة الشعرية التي تمسك بزمام حركة الشعر في الستينيات من القرن العشرين هي تلك المدرسة الباذخة، وقال “د. فضل أحمد عبد الله” إن مدرسة (الغابة والصحراء) تعددت حواراتها وتقاطعت بأسلوب دراما المسرح بكل تجلياته.. ولكن في قصائد “د. محمد عبد الحي” ثراء غني بالصور والدلالات التي تتصاعد جيئة وذهاباً في تخوم الدراما.. وقد شمَّ “د. عبد الحي” الشعر بأغنية أقصد قصيدة السمندل ملك النهار وهو يقول:
وحمل السمندل تاجه
وأمام ملكة النهار غنى
ففتحت المدينة بمهجة أبوابها
وتلألأ في صوته الذهبي الغبار
من ذلك الراقص فوق المجزرة
يقلق أمن المقبرة
أقاتل أم أجبر
أم هارب قد جاء يستجير
أنا السمندل
يعرفني الغاير والحاضر والمستقبل
مغنياً مستهتراً بين مغاني العالم المندثرة
وزهرة دامية في بطن أنثى في الدجى منتظرة
تلك مدرسة الوعي بالذات والوعي بجرح الوطن والوعي بالانتماء الذي أرهقنا بكثرة الحروب والصراعات والموت المجاني.. و”د. منصور خالد” الآن يستريح من الصراعات الطويلة.. ولكنه يتكئ على نصل حاد ويحدق في الفضاء البعيد، هل ماتت كل الأحلام ووئدت الأشواق.. والوطن تتقاذفه أمواج بحر السياسة.
(3)
تابعت مباراة السودان وساحل العاج.. فانتابتني الحسرة مرتين الأولى حينما شاهدت فرص تسجيل الأهداف تتطاير من تحت أقدام ورؤوس لاعبي المنتخب السوداني وهو يفتقر للاعب هداف.. يجيد التمركز داخل خط (18).. يستثمر الفرص التي يصنعها “بكري المدينة” المهاجم السريع الذي يزعزع دفاعات أي فريق أو منتخب.. ولو كان في السودان اليوم لاعب مثل “وليد طايشين” أو “والي الدين” لخرجت ساحل العاج من البطولة.. وصعد صقور الجديان.. والحسرة الثانية على فريق الهلال الذي يذبح المواهب ويخسر التسجيلات بسبب إدارة الهلال التي يسيطر عليها الرجل الواحد.. كيف للهلال التفريط في لاعب مثل “مهند الطاهر”.. حريف.. وهداف.. وله طعم ونكهة داخل الميدان.. “مهند” من حبه للهلال لم يذهب للمريخ، اختار هلال الأبيض ليغرد في حب الأزرق ولم ينتقم من “الكاردينال” بالتسجيل في المريخ.. وقد أثبت “مهند” في مباراة ساحل العاج أنه أفضل من كل لاعبي الهلال الحاليين، ولا تقف الحسرة عن الغزال بل (الغصة) الحقيقية في ذهاب “بكري المدينة” للمريخ من أجل المال، بعد أن عجز “الكاردينال” عن دفع ما يستحقه اللاعب.. بل إن بعض الذين (يتحكمون) في “الكاردينال” من (أوعزوا) له بأن “بكري المدينة” لاعب انتهى عمره في الملاعب.. اليوم يتوهج “بكري” في المريخ.. فهل لو كان على إدارة الهلال شخصية عميقة النظر ذات فكر كروي مثل “صلاح إدريس” سيخسر الهلال كل هذه المواهب ويصبح ضعيفاً يخرج من التصفيات الأولية للبطولة الأفريقية؟؟