جعفر عباس

وهكذا توترت العلاقات اللبنانية – السودانية (1)


كتبت هنا عن صمودي في العاصمة القطرية الدوحة خلال فصل الصيف الماضي، أي قبل نحو 9 أشهر، مبررا ذلك بعدم رغبتي في زيارة أي جزء من العالم، وأن ما «شفته» من بلاد «يكفيني وبالزيادة بعد»، ولكن كان ذلك يندرج تحت بند ما يسميه الخليجيون بـ«الخرطي» وهو الكلام غير المؤسس، الذي ينضح كذبًا، وحقيقة الأمر هي أنني بقيت في الدوحة لأنني حسبت أنني على موعد مع الثراء.
في عموم دول الخليج يكون لديك انطباع أنه بإمكانك أن تشتري وقودًا لسيارتك من إحدى المحطات مرة واحدة، لتتلقى بعد كذا يوم اتصالا هاتفيًا بأنك فزت بسيارة جديدة، ودخلت معمعة الحوافز، والمطاعم والمجمعات الاستهلاكية، ولأنني متيم بحب أبي الطيب المتنبي فإنني أعمل بمقولته: إذا غامرت في شرف مروم / فلا تقنع بما دون النجوم. وقوله أيضًا: وإذا كانت النفوس كبارا / تعبت في مرادها الأجسام.
وإذا خيل إليك عزيزي القارئ أنني ضعيف أمام أي عرض من أعراض الدنيا، فأنت غلطان، ثم غلطان، فالشاعر الذي استطاع أن يعبر عن دخيلتي هو محمود سامي البارودي: خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة / علي يدًا أغضي لها حين يغضب / وما أنا ممن تأسر الخمر لبه / ويأسر سمعيه اليراع المثقب / ولكن أخو همة إذا ما ترجحت به / سورة نحو العلا راح يدأب.
والعلا الذي دأبت عليه تلك المرة كان يستأهل، فما إن أعلن مطعم في الدوحة تقديم جائزة سيارة رولزرويس لمن يقتني كوبونات نظير تناول الطعام هناك، حتى صحت: هانت يا أبوالجعافر تأكل من حر مالك ثم يأتونك ليقولوا لك مبروك، وتلتقط لك الصحف صورة مع الرولز وتتحقق أحلامك، وقدرت أن مغادرة الآلاف للمدينة خلال الصيف سيعزز من فرص فوزي بالسيارة المترفة وأقنعت عيالي المشاغبين وزوجتي بالصمود والتصدي للصيف، بعد الإيعاز إلى أصدقائي في وسائل الإعلام، المتخصصين مثلي في تزوير الحقائق، بحيث يصبح الطغاة حكامًا منتخبين بالإجماع، بتزوير أرقام درجات الحرارة، لتخفيف التأثير النفسي لعدم السفر في الإجازة على أفراد عائلتي، وكم كانت دهشة عيالي عظيمة عندما وجدوا أنفسهم يتناولون ثلاث مرات يوميًا، وجبات كنت في ما مضى أنهاهم عنها، ولكن كإعلامي عربي أصيل تمرس في إلباس الباطل ثياب الحق، فقد أقنعتهم بأن إكمال الخريطة الجينية لابن آدم أثبت أن الكوليسترول والدهون مفيدة للقلب والشرايين، وخاصة إذا تم تناولها بكميات تجارية. حتى أصدقائي الذين كانوا نزلاء المستشفيات كنت أشتري لهم وجبات سريعة من مطعم الرولزرويس لأحصل على عدد أكبر من الكوبونات.
عاتبني كثيرون على هيامي بتلك السيارة فشطبتهم من قائمة معارفي وأصدقائي: يا جماعة تسنى لي بعد خمس سنوات من دخولي الحياة العملية اقتناء سيارة كان مجرد الجلوس بداخلها ينقض الوضوء، وأتيت إلى الخليج فأصبحت زبونًا مقيمًا في أسواق الحراج، حيث تباع السيارات المستعملة، ثم فتحها الله علي واستطعت لاحقًا أن أشتري سيارة لم تلوثها مؤخرة آدمي قبلي من وكيلها المعتمد، وقد حدثتكم من قبل عن ذلك الحدث الجلل الذي اهتز له البرق عندما أقامت الجاليات النوبية في أركان الدنيا الأربعة المهرجانات احتفالاً بـ«تبرجُز» أحد أخلص أبنائها، ولن أنسى فرحة أمي ولا الغرور الذي ركبها عندما تسلمت صورة فوتوغرافية لي وأنا جالس خلف مقود السيارة الجديدة قبل نزع البلاستيك عن مقاعدها، وبلغ بها الزهو والغرور مبلغًا جعلها ترفض تناول الأكلات الشعبية السودانية والإصرار على شراء الطعام من فنادق الدرجة الأولى، ولولا أنها لم تكن تحسن استخدام الشوكة والسكين، ولولا أنني أفهمتها بدبلوماسية أنني لا أستطيع تمويل نزعاتها البورجوازية الجديدة وسداد أقساط السيارة في الوقت نفسه، لدخلنا أنا وهي في السجن في انتظار قيام فاعلي الخير بإقالة عثرتنا، وكنت أحلم أن أفوز بالرولز وأن استقدم والدتي إلى الدوحة لتلتقط هي أيضًا صورًا تذكارية مع السيارة، بعد أن أشتري لها ملابس لائقة بدلاً من تلك المغشوشة التي درجت على إرسالها إليها مستغلاً ضحالة ثقافتها في مجال الأناقة والأزياء، وكنت سأقدر على ذلك لأنّ الرولز ستكون بلا أقساط وغدا بإذن الله ستعرفون كيف باظت العلاقات السودانية – اللبنانية.