د. ياسر محجوب الحسين

الترابي يؤرّق حيا وميتا


من المقرر أن تبدأ قناة الجزيرة منتصف هذا الشهر بث سلسلة حلقات من برنامج “شاهد على العصر”، ظلت مؤجلة لمدة خمس سنوات، مع الراحل الدكتور حسن الترابي..بيد أن حالة فريدة من الترقب انتابت الملايين لسببين: الأول الإعلان بأن الترابي اشترط عدم بثها إلا بعد رحيله، الأمر الذي حفز رغبة الناس في كشف خبايا وأسرار هذه الحلقات. السبب الثاني أن الترابي شخصية غير عادية ظلت مؤثرة في أحداث السودان لأكثر من خمسين عاما، وحديثه بهذه الكيفية قد يلقي بظلال كثيفة على نظام ظل حاكما ومتنفذا لأكثر من 26 عاما. وسبب آخر أن قناة الجزيرة مؤسسة إعلامية تتمتع بدرجة عالية جدا من الصدقية وذات تأثير على الرأي العام لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال.

ما رشح من معلومات يفيد بأن محاولات حثيثة جرت لمنع ظهور الحلقات ويبدو أن كم المعلومات أو الأسرار كبير وذلك بالنظر إلى عدد الحلقات البالغ 16 حلقة ويستمر لمدة أربعة شهور دون انقطاع.. يقول أحمد منصور مقدم برنامج “شاهد على العصر” في صفحته على تطبيق “فيس بوك” إن عشرات المقالات ومئات التعليقات وآلاف التغريدات والأعمدة والمقالات كتبت وتكتب داخل وخارج السودان منذ بث الجزيرة إعلانا عن قرب بث شهادة الترابي. ولم يعلق منصور على الحديث حول اتصالات على أعلى المستويات بين الحكومتين السودانية والقطرية لمنع بث الحلقات وأخرى بين عائلة الترابي وحزبي المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، والمؤتمر الشعبي الذي كان يتزعمه الراحل من جهة، وإدارة الجزيرة من جهة أخرى بغرض الحيلولة دون البث. لكن منصور رأى أن الجدل الواسع والاهتمام غير المسبوق بشهادة الترابي على العصر يؤكد على حقيقة واحدة هي أن الرجل يؤرق كثيرا من الناس حيا وميتا.

لكن هل من المتوقع أن يكون الترابي قد تحدث عن أمور عائلية حتى تتدخل عائلته؟ وكيف تسعى عائلة الراحل للحجر عليه وقد أدلى بشهادته وهو في كامل وعيه وهو بالضرورة مدرك لما يقول، كما أن أسرته لم تر فيه يوما عبئا يجب التخلص من ميراثه وإسكات صوته؟ لا أعتقد في تقديري أن ذلك أو هذا أمر وارد البتة.

من ناحية أخرى لا يبدو أن قلق النظام الحاكم في السودان مبرر؛ فالترابي رجل لا تنقصه المسؤولية الوطنية. ولعل الخشية منه بسبب أن حزبه ظل أشرس الأحزاب المعارضة لحكومة الخرطوم، وشكل صداعا مستديما لحزب المؤتمر الوطني الحاكم بزعامة البشير منذ تأسيسه في 1999. وظلت الحكومة محل انتقاد لاذع من جانب الترابي وكان نقده منهجيا بعيدا عن محاولات الكسب السياسي الآني؛ فانتقد كثيرا انحسار الشورى وانفراد قلة قليلة بالقرارات فأصبحت تجربة الحكم أقرب للحكم الشمولي.

لكن منذ عامين استطاع الترابي بشخصيته الكاريزمية الطاغية أن يوجه أشرعة سفينة السياسة السودانية المحاصرة بالعواصف والأمواج المتلاطمة في اتجاه رياح الحوار الوطني وكانت تلك أول محاولة تبدو جادة لاختراق الأفق السياسي المنسد باستئثار المؤتمر الوطني بالسلطة وانفراده بها، وقد استجاب لبعض متطلبات الحوار تحت ضغط ديناميكية وفاعلية مشاركة حزب الترابي. لقد أعلن الترابي في وقت سابق أنه إذا طلب منه الوقوف في محكمة قانونية فإنه سيقول الحق بكل تفاصيله، ورأى الرجل أن يودع شهادته ويضعها أمانة لدى قناة الجزيرة وهي جديرة بحمل الأمانة.

أعتقد أن الذي يخاف هذه الشهادة هي بعض الدوائر العالمية التي توحي بطرف خفي لحكومة الخرطوم بأنها ستكون أكبر المتضررين فتلك الدوائر فالجهات الدولية تخشى على سمعتها إن تم كشف ما قامت به في الخفاء ومن تحت الطاولة. كثير من جرائم الكبار ارتكبت تحت مزاعم نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان بالتعاون مع الديكتاتوريات المحلية.

يذكر العالم أنه خلال الحرب الأمريكية – البريطانية على العراق، واجهت قناة الجزيرة حملة شديدة من الانتقادات الغربية على وجه الخصوص، فقد نقل المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء البريطاني أنه صدم بعد بث الجزيرة صورا لجنديين بريطانيين قتيلين وأسيرين. وقال وزير الخارجية الأمريكي حينها كولن باول إن الجزيرة تقوم بتغطية الحرب بطريقة سلبية وتضخم الإنجازات العسكرية الصغيرة للجانب العراقي. ووصف الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش عرض الجزيرة لصور جنود أمريكيين أسرى بأنه غير مسؤول، فيما اعتبر وزير دفاعه دونالد رامسفيلد بث الصور أمرا مثيرا للغضب.

كان الترابي مصنعا متحركا للأفكار والرؤى الجديدة، وأخذ على عاتقه استخدام أدوات العقل والعلم لتحريك كل راكد وساكن من المفاهيم والقضايا. وهو في حقيقة الأمر مدرسة لها امتدادها السياسي والفكري والتنظيمي.