أ.د. معز عمر بخيت

أزمة ثقافة أزمة وطن: ثقافة العمل


تلقيت رسالة نبيلة من شاب طموح ومكافح أضاءت لي عتمة سبل مظلمة بدهاليز الوطن وأنكأت جراح الوجع والتداعي حين اجترت مساحات من الثقافات السالبة والمفقودة التي أتناولها بهذا المقال الأسبوعي عساها تفتح نوافذاً للأمل بين الحادبين على مستقبل وطننا الحزين. أقرأ معكم نص الرسالة ثم أعقب على ثقافات مفقودة في وطننا ألمحت بها رسالة هذا الإنسان المثابر، ولعل أهم ما أومأت إليه رسالته هو ما جاء في توقيعه بآخر الرسالة حيث كتب:
عاطف يحيى العجيل
حاصل على إجازة في العلوم من الهند تخصص فيزياء، وأعمل معلماً بديلاً في مدارس مقاطعة (بنورث كارولينا)، وبالمساء أعمل مساعد ممرض في أحد مراكز الرعاية الصحية، وحاصل على رخصة لممارسة هذه المهنة من الولاية. وهذا نص رسالة عاطف:
الأخ الدكتور/ معز عمر بخيت
تحية وسلام
قرأت لك في مجال الشعر وكذلك استمعت لحديثك في التلفاز عن انجازك غير المسبوق في اكتشاف جينات مرض النوم، وكذلك جهودك الحثيثة في مجال أبحاث الجينات. كل هذه الأشياء مدعاة أن نفاخر بك الأمم، نحن معشر السودانيين في عالم أصبحت الجاذبية الثقافية فيه للعلم بدلاً من دلق سم الحسد الزعاف في وجهك، فـ(الهند) لم تشفع لها حضارتها القديمة عند أصحاب العيون الزرق وظلت في ناظريهم أرض الفقراء والشحاذين، إلا عندما بزغ نجم فتاها الشاب باختراع (الهوت ميل)، هرع العالم الأول يبحث عن الصغار الزعب في حاضنات البرمجيات في مدن الصفيح في (حيدر آباد) و(بنقلور) وباليورو والدولار.
حقيقه يجهلها الكثيرون من أصحاب القلوب السوداء إنك ببزوغك في (مملكة السويد) في مجال الأبحاث قد فتحت من بعدك آلاف الفرص من المنح لطالبي العلم خاصة في مجال الطب، في زمن عجزت الدولة عن رعاية باحث واحد ويرعى مترفوها بالدولار فاقد نيجيريا التربوي في مجال كرة القدم.
الأخ الدكتور/ معز عمر بخيت بعد قراءتي لرؤيتك في مجال الرعاية الصحية بعد مخيمكم شمال أم درمان أعتقد أنك الأكثر تأهيلاً للقيادة بما لديك من رؤية في مجال الرعاية الصحية والتعليم. فالرئيس “أوباما” الذي لم تعرفه أمريكا إلا بعد خطابه في مؤتمر حزبه العام، الذي خاض بعده معركة الرئاسة وفاز بها عن طريق برنامجه الداعي لإصلاح الرعاية الصحية وجعلها متاحة للجميع، ومازالت معركته مستمرة مع لوبيات شركات التأمين الصحي وكذلك شركات الدواء الضخمة. وقد نجح “أوباما”في تمرير قانون إصلاح الرعاية الصحية، فحظي بفترة رئاسية ثانية. فإذا كان هذا في أمريكا التي توفر الرعاية الصحية بالمجان لكبار السن والأطفال والأرامل والمطلقات وأصحاب الاحتياجات الخاصة، ورتل من المؤسسات الخيرية والوكالات التي تدعم الأسر الفقيرة، فما بالك بدولة يرفض مستوصف تجاري فيها تسليم جثمان قاضٍ عادل ما لم يدفع ذووه باقي كشف الحساب، ولم يشفع لهم أن اليوم جمعة والبنوك مقفلة كما ورد على لسان القاضي “محمد الحسن”.
الأخ الدكتور/ معز عمر بخيت
اتفق معك أن أزمة الوطن هي أزمة ثقافة التي تمجد الكلام لا العمل والإنجاز وتحسد من يعملون ويجتهدون وتحاول عرقلة خطواتهم في طريق الإصلاح وهم موجودون في المعارضة وفي داخل النظام وفي كل مرفق، ولكن أؤمن معك أن علينا أن نعمل عكس الريح لأجل الأطفال والفقراء ونصارع أصحاب القلوب السوداء والمصالح الخاصة لصناعة أمتنا من جديد وفق رؤى وأسس تعلي من قيم العدل والنزاهة والخير للجميع دون تمييز. أخيراً أتقدم بطلبي لانضمامي إلى (منتدى عكس الريح)، وكذلك العمل معك في أي مشروع يخدم الفقراء خاصة الأطفال.. والسلام. (انتهت الرسالة).
الشكر المبجل والود والتقدير لـ”عاطف” على رسالته الكريمة وحسه الوطني العالي، وما قاله في حقي هو تاج في رأسي ودافع لي كي أكون عند حسن ظن الجميع بوطننا الحبيب.
في رسالة “عاطف” إشارات لثقافات عديدة نفتقدها في وطننا العظيم تعيق مسيرة التقدم فيه وترتبط بسلبيات تؤثر كثيراً على محصلة عطائنا. الثقافة المفقودة لدينا والتي ألمح بها “عاطف” في توقيعه هي ثقافة العمل والكفاح والنضال، فمن يا ترى يقبل أن يعمل كما يفعل “عاطف” داخل السودان؟ أنا على يقين أن “عاطف” لو عاد للسودان سيهزم مراءات المجتمع الذي يفتقر إلى ثقافة العمل المهني والفني والأعمال المساندة للمهن المختلفة لاثبات نفسه وتحقيق طموحاته في مجتمع لا يعرف احتياجه من العمل ولا يخطط له، ويعتبر أن عملاً كمساعد ممرض عملاً هامشياً لا يشرف القائم به ويعكس صورة قبيحة له بغض النظر عن الحاجة للعمل للشخص العامل وللمجتمع. كل أسرة تريد أن يصبح إبنها طبيباً ومهندساً ومديراً وعلى أسوأ تقدير رجل أعمال، وهي ثقافة حرية الإختيار التي سنتناولها في مقال منفصل.
كيف لنا دون ثقافة العمل أن نبني وطننا وننطلق به في رحاب العالم المتقدم؟ ولأننا لا نقبل العمل في مجال النظافة نستقدم العمال من (بنقلاديش) و(نيبال) و(الهند)، ولأننا لا نقبل العمل في مهن سامية كالتمريض نستجلبهم من (الفلبين)، بينما الشرفاء من السودانيين يعملون بهذه الأعمال في (الخليج) وفي الغرب، بل بعض من تتفشخر بهم الأسر من أطباء ومهندسين وقانونيين ومراجعين يعملون كرعاة وعمال بمحطات الوقود وتوزيع (البتزا) وبمخازن الأسواق وغيرها بالخارج، هذا ليس عيباً ولكنه وسيلة لكسب الرزق الكريم حتى يكتمل الطموح، لكن في نفس الوقت لا يعمل ولا يقبل في معظم الأحيان أن يقوم بهذه المهن في وطنه، حتى من يعمل بهذه المهن في أي مكان في العالم لا يصرح بها وكأنها عار عليه ويخفيها من أسرته وحتى من زوجته إن لم تكن مقيمة معه والتي قد تطلب الطلاق إن هاجرت إليه واكتشفت طبيعة عمله. ونواصل..

مدخل للخروج:
قال تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).. صدق الله العظيم
(أرشيف الكاتب)