منى ابوزيد

بعيداً عن البطاطس ..!


«كلما ازددت معرفة بالبشر وجدت نفسي أكن المزيد من الحب للكلاب» .. شارل ديغول ..!
صحيفة اليوم السابع المصرية، نشرت – قبل فترة – تحقيقاً استقصائياً خطيراً عن التجارة بأعضاء الأفارقة المتسللين إلى إسرائيل عبر سيناء، والذين تحتجزهم عصابات من البدو في مغارات سيناء، وهناك يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والمساومة على حياتهم مقابل سرقة أعضائهم .. التحقيق كان يحوي صوراً بشعة لجثث مهتوكة الأحشاء بعضها بلا قلب، أو بلا كلية، وأخرى بلا عينين أو بلا قرنية.. بقي أن تعرف أن معظم هؤلاء المنكوبين هم من أبناء هذا البلد ..!
ياسر «إبراهيم هارون»، شاب سوداني، لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، خرج من السودان عن طريق عصابات التهريب المنتشرة في البلاد، بقصد التسلل إلى إسرائيل، أحد هؤلاء المهربين واسمه «ياسين» وعده بالسفر مجاناً شريطة أن يسدد نفقات الرحلة والخدمات كاملة عند وصوله إلى سيناء ..!
هناك في سيناء بدأت رحلة ياسر مع التعذيب، عندما فوجئ بعصابة التهريب وهم من البدو المسلحين يطالبونه بمضاعفة المبلغ محل الاتفاق الذي أبرمه في السودان (ثمانية ألف دولار ثمناً لرحلة تستغرق ثلاث ليالي، يتنقل البشر الذين يتم تهريبهم خلالها من ثلاث إلى أربع عربات لاند كروز، مغطاة بخيم لا تسرب شعاع شمس ولا نسمة هواء، وأحيانا يستقلون مراكب صغيرة عن طريق قناة السويس) .. وعندما أكد الفتى عدم استطاعته مضاعفة المبلغ، تعرض للتعذيب، رشوا جسده بماء النار وقاموا بكيه بالجمر وكسروا بعض أضلاعه ..!
إما أن يكلم أهله عبر الهاتف مطالباً إياهم بإرسال المبلغ مضاعفاً أو يفقد حياته بعد سرقة أعضائه مثلما حدث من متسللين كثر تملأ جثثهم مشرحة «مستشفى العريش» .. لكن إرادة الله شاءت أن يتمكن المسكين من الهرب بعدما ألقوا جسده في الصحراء لأسباب غامضة، فظل راقداً على الرمال بين الموت والحياة إلى أن عثرت عليه قوات حرس الحدود وتم نقله إلى «مستشفى العريش العام» ..!
حكاية «ياسر» على فظاعتها وبشاعة تفاصيلها تبقى حكاية حالة فردية تنبئ عن أحوال أفظع وجرائم أبشع وقع ضحيتها شباب غررت بهم عصابات تهريب السودانيين إلى إسرائيل عن طريق مصر، أو إلى السعودية عن طريق اليمن، ناهيك عن عصابات تهريب الأجانب إلى السودان (التي تقول بعض المصادر إن أكثر من ثلاثمائة أجنبي يدخلون البلاد عن طريقها كل شهر) ..!
الطبيعة الجغرافية للسودان تجعل من حدوده مرتعاً لنشاط هذا النوع من العصابات ، وكلها مخاطر جاثمة على أمن هذا البلد، قومياً واجتماعياً واقتصادياً، فانتشار هذه الظاهرة لا يقل خطورة عن جرائم تهريب السلاح والآثار .. حكاية «ياسر» هي خاتمة حزينة، لفصول أخيرة، في حكايات شباب كثر، من أبناء هذا البلد، الذي تتباهى حكومته بتخصيص وزارة لتنمية الموارد البشرية .. والذي تباهت شرطة مكافحة التهريب فيه بأنها قد أحبطت منذ يومين عملية تهريب شحنة بطاطس قادمة من إسرائيل .. بعيداً عن البطاطس أين السلطات في بلادنا من التفاقم المستمر لأعداد البشر المهربين ألى داخل السودان أو إلى خارجه ..!
النيابة العامة ذكرت عند الانتهاء من التحقيقات – في آخر قضايا الاتجار بالبشر في السودان – أن المتهمين ينتمون إلى شبكة تعمل في الاتجار بالبشر، وهي جزء من شبكة عالمية، لها علاقات إقليمية ودولية ..!
يا أيتها الحكومة .. عدد اللاجئين السودانيين بمختلف دول العالم بحسب تقارير دولية – هو نصف مليون لاجئ .. وعدد المغتربين المقيمين في بلاد الناس والمهاجرين إلى ماشاء الله تجاوز الملايين الأربعة .. و- بحسب إحصاءات جهاز المغتربين – هنالك آلاف المهاجرين السودانيين الذين يقيمون بدولة إسرائيل بعد نجاح عمليات تهريبهم إليها في الوقت الذي تفشل فيه عمليات تهريب البطاطس ..!