الصادق الرزيقي

لم تظل قضية طازجة: البحر والسفر والشعراء.. وليل يطول ..!


(أ)
قبل خمسة وعشرين عاماً، كتب الدكتور شاكر الفحام، اللغوي العربي الشهير، ورئيس مجامع اللغة العربية الأسبق، ورئيس المجمع في دمشق لما يقارب الثلاثين سنة، وعضو كل المجامع العربية من محيطها إلى خليجها، كتب مقالاً مهماً في قضية أدبية ذات أبعاد ومضامين وحواشٍ لم يهدأ أوراها بعد، عن الأدب المهجري وشعراء المهجر، نشرته بعض المجلات والدوريات الأدبية العربية الكُثر التي ذهب بعضها إلى ذاكرة التاريخ ومايزال بعضهن ينبض بسجعٍ كسجع الحمائم..
شكك الدكتور شاكر في حقيقة الأدب المهجري، وذاك الشعر الرقيق والدافق بالحياة والأمل والتفاؤل والشعور الإنساني النبيل، حيث صور شعراء المهجر حياتهم التي عاشوها في الأمريكيتين وبلاد المهاجر النائية القصية وهي بعيدة.. بعيدة، كأنها قطع من الجنان وعالم يضوع بالجمال والحب والروح الشفيفة والخيال، وجاءت أعمالهم الأدبية كأنهم كانوا يعيشون على ضفائر النجوم وسهوب الضياء المزركش في الفضاء العريض.!!.
ولا تختلف الرؤية التي تقدم بها الدكتور الفحام و واستخلاصاته والنتائج التي توصل إليها، عن أفكاره المركزية المشهورة في النقد الأدبي، وأذكرُ خلال مشاركته قبل بضع وعشرين سنة بالخرطوم في مؤتمر عن التعريب وتحديات اللغة العربية نظمه مجمع اللغة العربية عندنا هنا بالسودان، كان يتحدث لكاتب هذه الأسطر وكنت يومها رئيساً للقسم الثقافي بالمقبورة صحيفة «السودان الحديث» ويرأس تحريرها آنذاك أستاذنا الكبير فتح الرحمن النحاس، عن منهجه التحليلي الدقيق في نقد الأدب المهجري، وألفيته مستلاً فكرته من القرائن الموضوعية والظروف التي عاشها المهجريون، ومن الأشعار والكتابات التي كتبها شعراء تلك الحقبة ولم تجد حظها من النشر الواسع، فما عرف من أدابهم وإنتاجهم الإبداعي الرقيق و ارتحالهم في ركاب الشعر الغربي الحديث ونقله بأنماطه إلى الشعر العربي.. هو ما ذاع وشاع..
ويتفق بعضاً من النقاد مع الفحام أن شعر المهجريين لم يكن هو بسمة في وجه الزمن كما قيل، أو أنشودة عذبة في شفة التاريخ.. ولا رياح رقيقة.. صادقة.. ودافئة.. هبت على الأدب العربي في الشرق فأنعشته من سباته العميق وحرَّكته من ثباته على تفعيلته وأوزانه وصوره وخيالاته القديمة وعراقته التي ملأت فجاج الزمان.
(ب)
في النصف الثاني ثم الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر وطلائع القرن العشرين ومطالعه، هاجر إلى الأمريكيتين الشمالية والجنوبية، عدد من الشعراء العرب من بلاد الشام خاصة من سوريا ولبنان وفلسطين، وجلهم من المتعلمين في مدارس حديثة وجامعات، وربما كانوا هاربين من أوطانهم وهي تئن تحت بطش الحكم العثماني الذابل حانئذ، أو من الهجمة الاستعمارية الأوروبية المحمومة، وكان هؤلاء الهاربين في شوق إلى العيش في الدنيا الجديدة وما سمعوا به فيها من رغد العيش وفضاء الانطلاق، فتزاحموا على شطآنها وموانئها ليعيشوا حياتهم وسط موج المجتمعات التي صدحت بلابلها يومئذ بالحرية والديمقراطية والعلم والمعرفة.. واختار بعضهم أمريكا الجنوبية، وكانت عذراء بكر جُلها لم يطمسه أنس ولا جان ..!
كان الشوام هم الأسبق كما هو معلوم، وأقل ما اشتهروا به إنهم نتاجات الازدهار الأدبي والمعرفي واللساني في منطقة الشام في سوريا ولبنان وفلسطين، حيث كانت الحياة المرتبطة بالآداب والفنون والموسيقى والتصوير والتشكيل والبحث في التراث تمور وتفور بكبار الباحثين والمحققين والشعراء وفقهاء اللغة وواضعي المعاجم والقواميس والترجمات، وكان الانفتاح على الأدب الفرنسي والروسي والإنجليزي والفلسفة اليونانية القديمة وحديثها من الألمانية في أوج تجلياته وعلى قمة عرشه، لكن الظروف السياسية وأوضاع المنطقة العربية هي التي دفعتهم للهجرة، فهاجر الكثير منهم إلى أمريكا الشمالية واستقروا في مدينة نيويورك وكونوا الرابطة القلمية ورابطة أبولو والرابطة الأدبية وروابط أخرى سبقتها، وكان من بين هؤلاء الأديب اللبناني جبران خليل جبران ورشيد أيوب ونسيب عريضة ومخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وأمين الريحاني وجورج صيدح ووديع باموط ورشيد الخوري القروي وأحمد زكي أبو شادي وإلياس عبدالله وأمين مشرق و وليم كاتسليف وليث سعيد وعبدالمسيح حداد وندرة حداد و وليم بلاك وغيرهم خلال الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر حتى نهايات النصف الثاني من القرن العشرين.
بينما هاجر إلى أمريكا الجنوبية خاصة البرازيل والارجنتين وفنزويلا وكولمبيا والإكوادور والبيرو وشيلي والمكسيك وأمريكا الوسطى، وعدد كبير منهم على رأسهم أسرة عيسى المعلوف اللغوي الشهير وأبناءه الشعراء الكبار فوزي المعلوف وقيصر وشفيق وميشيل علوف ورشيد سليم والياس فرحات وعقل الجر واسكندر كرباج وإيليا أبو ماضي ويار شهلوب وعمر عبيد وشكر الله الجر ومهدي سكافي وفارس نجم وضاهر نجم ونعوم اللبكي ويوسف ناصف وجورج عساف واصطفان غليون وتوفيق ضيعون وخليل كسيب وأنيس الراسي وآخرين، وكون هؤلاء على غرار الرابطة القلمية في نيوروك، ما عُرف بــ (العصبة الأندلسية) و(رواق المعري) في حنين واضح لرائحة الشرق والثقافة العربية الإسلامية التي صبغت الثقافة الإسبانية ولغتها في إسبانيا لقرون عديدة ثم تمددت إلى المستعمرات الأسبانية في القارة الإيبيرية وبلدانها الناطقة بلغتها وبشقيقتها اللغة البرتغالية في البرازيل التي استوطن فيها عدد كبير من الأدباء المهجريين العرب.
(ت)
واتسم شعر المهجر كما هو معروف بنزعاته الروحية الإنسانية في الأشعار والقصص والروايات والكتابات الحكائية والنقدية ورقة أساليبه وغوصه داخل النفس البشرية وأطوارها، والتأمل في الحياة واقتباس أنماط وخيالات الأدب الغربي والتناصر معه، تكفي لمحات سريعة لكتابات جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وندرة حداد وإلياس عطا الله وغيرهم، لمعرفة أمدية واتساع الفضاء الملون الذي عاشوا فيه ونثروه على بساط الشعر العربي، وهي صورة تقارب إلى حد بعيد الأدب الأندلسي ومكانته في ديوان الشعر العربي فآداب الأندلس في أيامها الزاهرة تعد خيوط حرير رقيقة ونسمات من عبير الكلمات هبت فوق رياض الشعر العربي العريق..
فتشكيك الدكتور شاكر الفحام يتمحور في أن ما نجده في إنتاج شعراء المهجر وخيالاتهم وأساليبهم والعاطفة الجياشة التي تجول فيها وتصول، لا تمت بصلة للحياة والمعاناة التي عاشوها في مهاجرهم. فشظف العيش والمأساة التي أنشبت أظافرها على ظهر كل واحد منهم غابت ولم يرد منها الكثير في أشعارهم ورواياتهم، فما هربوا منه في الشرق وجدوا ما هو أقسى وأمر منه في الغرب البعيد، فلذا كان كل شعرهم يعبر في الأساس والحقيقة عن الحنين إلى المشرق وإلى أوطانهم، فالشجن المخيم على كتاباتهم والشجى في أفئدتهم، ما هو إلا ردة فعل على الظروف القاسية المجحفة، والظلم الذي واجهوه وعاشوا تحت نيره وبين مخالبه.. سواء أكان ذلك في أمريكا الجنوبية بين بلادها التي كانت في ذلك التاريخ تحت وطأة التخلف الاجتماعي والاقتصادي وهيمنة المستعمرين، أم ما عاشوه في أمريكا الشمالية خاصة في نيويورك، حيث قسوة الظروف المعيشية وضغط العمل وبروز سطوة النظام الرأسمالي وبيوتات المال و الأعمال وسيطرتها على المدينة التي صارت عاصمة المال والتجارة وحركة الاقتصاد والأموال في العالم..
لم تكن دقيقة إذن.. تلك الحياة ونشوتها التي سرت في أوصال الشعر والأدب المهجري، كانت خيالاً ذا أجنحة عريضة حلق بنا في عالم غير موجود وبحار لا سواحل لها وسماء بلا محدود.. ولسنا هنا في حاجة لإيراد أشعار وكتابات المهجريين وما تحتويه من شجن حنين جارف ولغة ناصعة جاذبة ذات أريج وعبارات محلقة تهوم في آفاق مزركشة تلامسها العين والخيال قبل اليد..
لقد عمل الكثير منهم من الذين هاجروا إلى أمريكا اللاتينية في التجارة لكنهم قبل أن يصيروا تجاراً وكانوا في شرخ الصبا والشباب عمالاً في قطع الأخشاب في غابات الأمازون وفي موانئ الشحن على الأنهار الغائرة في لحم أمريكا الجنوبية أو شواطئها على المحيطين الأطلنطي أو الهادي، قاسوا لفح الشمس وعواصف وأنواء الأمطار الغزيرة والرياح العاتية والبرد والجوع وشظف العيش، ولم تتغير حياتهم إلا بعد سنوات طويلة كونوا فيها ثروات مكنتهم من العيش بكرامة في أخريات أيامهم في ساو باولو بالبرازيل وكراكاس ومكسيكو ستي وبوغوتا وبيونس أيرس وريودي جانيرو وغيرها من عواصم بلدان أمريكا الجنوبية ومدن خاملة الذكر في تلك الأصقاع البعيدة.
أما من عاش في أمريكا الشمالية وخاصة في نيوروك فقد سحقتهم ساعات العمل الطويلة في الموانئ وشركات تفريغ البضائع والمطابع والمتاجر والشركات الناشئة والسكك الحديدية والتشييد والعمل في حراسة المباني الفخمة وناطحات السحاب والبورصة ومتاجر اليهود بجشعهم وحقدهم على المشرقيين.
لم تعكس قصائد وأقاصيص وروايات الشعراء المهجريين إلا النذر اليسير من هذه الحياة، أو تكاد معاناتهم لا ترى بالعين المجردة وتحتاج إلى مجاهر وعدسات مكبرة كما عند الدكتور شاكر الفحام، وظلت الكثير من الحقائق حولهم مجهولة ومطمورة تحت رفيف أغصان الكلمات الرقيقة الجميلة والأساليب الأدبية الراقية..
(ث)
أتيحت لي فرصة وأنا في نيويورك وفي زيارة لبعض دول أمريكا اللاتينية وأمريكا الوسطى في كولمبيا والبيرو والسلفادور وكوستاريكا التي وصل إليها صدى تلك النخبة وماتزال الجاليات اللبنانية والشوام تعيش هناك، ويتحدر المروي عن هؤلاء الشعراء ويستقبله الجيل الخامس أو السادس أو الرابع تقريباً من أسلافهم، كأنه يتدلى من سقف بعيد لا تصله أياديهم ولا تفك عقولهم ورغباتهم طلاسمه..
هذه الفرصة جعلتني أقتفي آثارهم وأنقب وراءهم وأنا أطل على عالم شعراء المهجر وأتذكر ما كتبه الدكتور شاكر الفحام، فوجدت أن الكثير عن الرابطة القلمية والروابط التي نشأت قبلها وبعدها، لم يكتب بعد، ويحتاج إلى باحثين ونقاد ودراسات علمية عميقة تسلط الأضواء الكاشفة على عالم أثر كثيراً على الذائقة الشعرية العربية الحديثة وحفر أخدوداً بين هضبات الشعر العربي، وسال في أوديته وفاض..
فالقضية التي نطرحها هنا هي النظر في حقيقة شعر المهجر والكثير عن الحقائق والظروف والعوالم التي تحيط بالشعراء وظروفهم الشخصية ومعاناتهم والمؤثرات التي أحاطت بهم..
ففي أزقة وشوارع مانهاتن الضيقة في نيويورك وفي مساكنهم القديمة في بروكلن ومخازن قديمة لشركات الشحن والنقل البحري والنهري والمدارس والكليات العريقة ودور النشر التالدة والكنائس العتيقة تكمن هناك وتُختزن معلومات وقصص وحكايات وأقوال لم تكتب بعد عن هؤلاء الذين ملأوا المشهد الشعري العربي ولم يخرجوا من خشبة مسرحه حتى اليوم ..!
وسؤال أخير .. عرف السودانيون هجرات مماثلة وهي قليلة لكنها محجوبة في غياهب التاريخ، فهل هناك نماذج مثلها..؟ أم ضاعت مع الزمن وتلاشت في غبار الأيام والسنوات..؟ فقد كان لدينا مهاجرون نشروا الإسلام وسط الأمريكان السود في أمريكا الشمالية وجنوب شرق آسيا وفي المكسيك من بقايا الأورطة السودانية التي ذهبت الى هناك عام 1863م لتقاتل بشجاعة وجدارة، وهناك فليكيس دارفور في جزيرة هايتي، فهل لدينا شعراء وأدباء هناك كان لهم مثل ما لشعراء المهجر من الشوام..؟؟! أم تلك قصة أخرى كما قال الطيب صالح رحمه الله؟ ..!!