حسين خوجلي

ودارت الأيام..!!


كنا مجموعة على شفا التمرد الفكري إنه كبيرنا الذي «علمنا السحر» فقد كان في الصف الثالث وكنا في الأول بالمرحلة الثانوية. واستمر هذا التمايز في الدراسة والعمر بيننا حتى الجامعة.
احتفظنا به صديقاً كبيراً أسبق منا في تعاطي الشعر والقصة ورحاب الثقافة العريضة ـ كان في قامته طول وبسطة وفي حديث رقة وحنكة ومن خلالها يتدفق عليك صندوق ألفاظه الملون البهيج. كانت أذناه الحصيفتان لا تتقبلان معتاد الكلام. ولذلك فقد أصبحت حياة المسكين مطاردة مضنية في سبيل الدهشة ومعاركة الاعتياد. فملخص نظريته في علم الجمال «أن الشئ المدهش هو دائماً الشئ الجميل» وكل جميل راكد في عالم الكلمات والإنسان هو مجرد صنم ووثنية «وفوتوغرافيا باردة».
كنا في أول أمرنا نتقبل منه تقبل التلميذ الفتى من أستاذه الشيخ فانطلقنا في العالمين نحارب باسمه في السياسة والأدب والاجتماع، فهذا السياسي فاشل لأنه ناقل وهذا مغشوش لان كسبه العام كان من لدن طائفة وبيت وليس من صدارة أصيلة ورؤية.
وقد خضنا من أجله معارك وحروب وتطاولنا على أساتذتنا لدرجة أدت إلى حرماننا من محاضرات كثر ودروس وقد كان أشهرها في الأدب دفاعنا المستميت «عن بيت المتنبي صلاة الله خالقنا حنوطاً على الوجه المكفن بالجمال، فقد عزمنا وأصررنا أنه من أجمل أبيات الشعر العربي.
مخالفين في ذلك كل مقولات النقاد العرب «الذين قالوا قولاً معروفاً أن الوقار للجسد المسجى لا يستوجب النسيب حتى يقرن بالجمال».
ولكن ما علينا والناس. فإن الأمر مدهش وغريب وجميل فهو حق «وليس مهماً غضب الآخرين، فالآخرون هم الجحيم» وقد تنامى عندنا هذا المذهب الفني حتى أصبحنا نفتعل له الفكرة والنصوص ـ فكلما اغرقنا في تقصي الاختلاق والدهشة وافتعلنا الاختلاف مع أصحاب الأفكار الساكنة والمقولات المتفق عليها ـ وكلما أصابهم أصابنا العنت والنصب من الجدال والحوار ظننا أن المصطفى صلى الله عليه وسلم يربت على اكتافنا قائلاً: «طوبى للغرباء» ودارت دورة الأيام فسكت التمرد وسكنت الخواطر. فما عاد «مهيار» شاعرنا الأثير وما عاد المعري صديق القيلولة الوحيد وما عاد الإمام المقاتل ابن حزم.. هو شيخنا الوحيد في الفقه ـ وقد عرفنا أخيراً لماذا كان اختيار صديقنا وتفضيله للشافعي وابن حزم كان سر الأمر أن هؤلاء فوق فهمهم كانوا شعراء وقد كانت نهاية المسألة عنده «أن من أعطى الشعر فقد أعطى الحكمة ومن أعطي الحكمة فقد أعطي خيراً كثيراً».
وبدأت تسقط من دواخلنا تلك الرهبة تجاه ذلك الصديق الكبير ـ فقد «تلاحقت الكتوف» كما يقولون بل أننا أصبحنا نناكفه ونعاتبه ونزعم أن شعرنا أجود من قريضه وأن أفكاره في ذلك الأمر فطيرة، ولا تقوم على حجة، وفي جلسة مكاشفة اتفقنا على أنه رجل ونحن رجال فلن نتبنى له فكرة إلا بمعيار العلم والحقيقة ـ وقد قطعنا دابر الأمر بالأغلبية الميكانيكية ـ فرحنا كثيراً لأننا حسبنا القضية انتصاراً ـ وقد حسبها هو في نفسه الكبيرة بأنها «مؤامرة بيضاء». استمرت الصداقة صافية كتيار النيل الخالد حتى قطعها سيف الاغتراب اللعين ـ فقد ذهب هناك إلى بلاد الثراء الكريمة وعمل بمؤسسة صحفية وصار له شقة وعربة ومكتبة وأصدقاء كُثر من كل الأجناس والألسن. انقطعت بيننا الرسائل وانزوت ذكرياتنا العطرة في مؤخرة الخاطر الكسير.. وتلاشت أيامنا في خضم السودان «وما أدراك ما السودان».
وفي أصيل يوم أزرق والأرض والسموات وأنا خارج وفي جيبي بطاقة لأداء ليلة شعرية اضطررت لها حين غادر الشعراء من متردم، وقفت أمام منزلنا الأمدرماني عربة أنيقة وترجل شاب أنيق كان «هو» وتعانقنا طويلاً وتنافقنا في غير تزييف واصطحبته الليلة الشعرية وحكى لي عن الغرب والغربة والبحث عن الزوجة الحبيبة وقد أضناه البحث والتنقيب لخمس سنوات عجاف ـ فالمرأة التي يبحث عنها امرأة ما زالت مخفية فلسفة الدهشة تلك والغرابة وسواحل الشعر والثقافة امرأة تشبه تنهد النسمة على الضفاف الحزينة «ضحكنا طويلاً وتناسينا الأمر وتسارعت خطى التهيام في الذكريات قدمته فقرأ شعراً كما لم يقرأ من قبل ـ وانتشى الجميع وأحسسنا كأن الخرطوم كلها تصغى.
وعندما هممنا بالانصراف، تقدمت منّا فتاة وادعة وحاورتنا في الشعر والحياة وهل عاد الشعر ذلك السامر المدهش!!.
فالتفت لصاحبنا وقد فقر فاهه دهشة «إنها هي تتحدث عن الشعر و تتحدث أيضاً عن الدهشة» وانصرفنا وبعينيه المنى لمؤخرة الذاكرة، والخاطر الكسير ودارت الأيام، دخلت البارحة مكتبي وجدت مظروفاً أنيقاً فضضته.
الخطاب يعانق «صورة فوتغرافية» (يا للدهشة) صديقنا عريس والعروسة «فتاة الليلة الشعرية وابتسامة السعادة بائنة بل إنها تتقافز خارج الإطار».
ومن بين السطور أطلت من الخطاب هذه العبارة «أنا شاكر لك أيها الصديق على هذه الخدمة الجليلة «إنها حقاً أميرة» و«مدهشة» أباهي بها باسم السودان كل الجنسيات عرباً وعجماً وألحظ في عيونهم «عشم المشابهة» فأحرف بيت المرحوم الجاغريو «أُمات الشعوب اتلمو وبقوا يلدوا وعليهو يسمو»..
٭ أما صديقنا الثاني بالجامعة فهو وجودي عريق استغرقه كل كتابها وكتاباتها وأصبح يبحث لها عن مقامات في التاريخ العربي والإسلامي. وبالرغم من أن محاولاته قد باءت بالفشل إلا أن محاكاته وتقعره وبحثه عن الغريب جعله أمير كل الجلسات العابثة وشبه الجادة.
كان والده جزاراً معتبراً بسوق الخضار بالخرطوم، قبل أن تعتبر السلطات أن قفة الملاح «إشانة سمعة» يجب أن تبعد إلى الأطراف وتحل محلها «الحفرة» التي حيرت الإنس والجن، والده الشديد السمرة كانت مواصفاته في جمال المرأة «صفرتها» و«صحتها».
وعندما ذهب به صديقنا بعد التخرج ليخطب له «البنت الوجودية الوحيدة بالخرطوم» كانت لسوء حظ شيخ الجزارين أكثر سمرة منه، السمرة التي كان يسميها صديقنا «العمق الذي يشبه كبدة الأبل وتراب الجزيرة عندما يعد للزراعة».
وقد كانت في نظر والده نحيفة «فلكابة» وكانت عنده رشيقة مثل البان والسيسبانة، خط الدفاع الأخير لصديقنا غير أنها رشيقة وخضراء ووجودية فهي «مختلفة» ومفردة «مختلفة» كنا نستعملها كثيراً حينها للاستدلال على التفرد والتميز .. تمت «الخطوبة» وظل الأب صامتاً لا يحدث أحداً حتى وصل مع ابنه الوجودي منزل العائلة. وأخيراً أطلق صاروخه بجملة بلغت الآفاق «صحي يا ولدي مختلفة» وضجت الخرطوم بالضحك.