مقالات متنوعة

محمد لطيف : حين يصطف الجميع.. خلف القاتل


لا أجزم إن كانت السلطة القضائية قد قدمت حيثيات وافرة وهي تصدر منشورها القاضي برفع قيمة الديات لنحو عشرة أضعافها.. ولكن المؤكد أن السلطة القضائية الموقرة.. قد رأت لتقدير قدرته أن تصدر منشورها دون الرجوع لجهات ذات صلة.. وهذا يؤكده أمران.. أولا.. ملمح المفاجأة الذي صبغ صدور منشور زيادة الديات.. ثم ردود الأفعال الكثيفة التي تبعت صدور المنشور.. ومن جهات تتأثر مباشرة بذلك المنشور.. قطاع التأمين على سبيل المثال.. ولعل الجدل الكثيف.. والتحفظات قد نحت بالسلطة المصدرة لذلك القرار أن تتيح مهلة كافية إن جاز التعبير قبل تطبيقه.. أو تنزيله إلى أرض الواقع.. ولعل المتابعة لما ترتب على ذلك المنشور من نقاش ومن جدل ومن مداخلات.. أفرزت جملة من الإفادات التي تستحق الوقوف عندها.. ومنها اللافتة أيضا.. وكشأن كل قرار كبير له تأثيره الداوي على المجتمع عموما فقد تباينت المواقف أيضا إزاءه.. من مؤيد لمتحفظ لمعترض عليه..!
فإن كانت أبرز حجج المعترضين على المنشور ارتفاع الزيادة في حجم الدية لدرجة بلغت العشرة أضعاف.. وكذلك عنصر المفاجأة وعدم تهيئة المعنيين بالأمر.. فإن حجج المدافعين تعددت هي الأخرى غض النظر عن الاتفاق معها أو الاختلاف.. كانت واحدة من الحجج مثلا أن المنشور يستهدف أساسا دارفور والنزاع الدائر فيها.. خاصة تلك المصادمات القبلية العبثية.. التي تنطلق دائما دونما مبرر وتخلف في كل مرة أعدادا هائلة من الضحايا.. يبرر أصحاب هذه النظرية أن ضعف الديات كان واحدا من أسباب الاستهتار بأرواح الناس.. غير أن هذا المنطق لا يسنده منطق.. فالذي يقتل لا يفكر أصلا في العقوبة قبل الإقدام على ارتكاب جريمته.. فهو لو فكر لحظة اصلا لما أقدم على جريمته.. كما أن الجاني حين يقبل على ارتكاب جريمته يفترض أنه في مأمن من العدالة وإجراءاتها.. وقبل كل هذا وذاك.. فالطريف أن جل الديات إنما تتكفل بها وتتحملها الدولة.. مما ينسف مشروعية هذه الحيثية.. إن كانت واردة أصلا..!
تلاحظ عموما أن حكمة مشروعية التشريع هذا.. وفقا للمدافعين.. هي ردع المجرمين.. وهذا منطق لا يصمد كثيرا أمام كثير من الحالات التي يرتكب فيها الجاني فعلته هذه.. فحوادث المرور مثلا.. تلك التي تنجم عن تهور البعض وارتكاب مخالفات مرورية.. قد تؤدي في نهاية الأمر إلى أن يدفع المخطئ نفسه روحه في تلك المخالفة.. فالمؤكد أن هذا الشخص لم يخطط للانتحار.. بل كل ما فكر فيه كسب خمس دقائق من وقته جراء ارتكابه تلك المخالفة.. ونتيجة لذلك يخسر عمره كله.. إذن هذا الشخص لن تردعه هذه القفزة في حجم الدية.. لأنه يفترض أنه بمنأى عنها.. وقس على ذلك..!
وثمة اجتهاد أيضا يربط قيمة الدية الجديدة بالإبل.. مئة من الإبل.. فإن كان ذلك صحيحا فهذا يعني أن دية الشخص ستكون أعلى من ذلك بكثير.. وثمة اجتهادات أخرى تطالب بالتدرج في زيادة قيمة الدية.. وهو مطلب على كل حال يبدو أكثر موضوعية ومنطقية.. سيما وأنه يعترف بالتضخم وانخفاض قيمة العملة وارتفاع تكاليف الحياة.. وهذا ربما يلفت النظر.. إلى أن الاحتجاج الذي صاحب ارتفاع قيمة الدية.. لم يقابله احتفاء بارتفاع قيمة الدية من قبل المستفيدين المحتملين من الزيادة.. لقد اصطف الجميع خلف القاتل مطالبين بتخفيض الدية.. ولم يتذكر أحد المقتول ليقول.. مسكين كل هذا المبلغ لا يعوض خسارة إنسان..!