الصادق الرزيقي

نظام الإقليم .. صراع الهامش والمركز (2)


> لحظة حاسمة، التي تشهدها دارفور اليوم، في ولاياتها الخمس، بانطلاق عملية التصويت في الاستفتاء الإداري، وهو تتويج لاتفاقية الدوحة الموقَّعة 2011م، وهذه خاتمة مطافها بعد فترة انتقالية منذ تكوين السلطة الإقليمية. ويرجح أن يكون خيار الولايات هو الخيار الغالب، لقناعة كل أهل دارفور إن تجربة الإقليم لم تجلب إلا الخلاف والصراع السياسي الذي امتد من الحكم الإقليمي في العام1980م حتى تحول إلى مواجهات مسلحة وحرب ضد الدولة في العام 2003م.
> وقلنا بالأمس هنا، أن فكرة الإقليم عندما نهضت من مقبرتها في مطالبات الحركات المتمردة في أول مانفستو لها أعلن في جبل مرة 2002م، كانت فكرة جمع أهل دارفور في كيان سياسي واحد مثل جنوب السودان، هي البضاعة الرائجة بين منسوبي الحركات ومناصريهم من النخب السياسية المعارضة، وتلقفها بسرعة كثير من الطامعين في قيادة الإقليم والتحكم فيه، مثلما ركبت موجتها الأحزاب السياسية المعارضة للإنقاذ، على مظنة أن الخطة التي رسمها جون قرنق لحلفائه المعارضين أن نظام الخرطوم لا يمكن إسقاطه إلا بمواجهة شاملة بين قوى الهامش وأطرافه حين تصطف ضد مركز السلطة والثروة والنفوذ..
> ولعبت خمر الأوهام السياسية برؤوس كثير من الرموز السياسية من أحزاب المعارضة وداخل المؤتمر الوطني نفسه، وظن هؤلاء خيار الإقليم يفتح الباب واسعاً لطموحاتهم وتطلعاتهم، ولم يدرِ أياً منهم أن هذه المطامع قد أفلت نجومها بقيام الحكم الاتحادي وتوسعت مواعين السلطة والمشاركة فيها للجميع، ولم يعد حكم دارفور حكراً على مجموعات محددة أو طبقة سياسية دون غيرها.
> درأت تجربة الحكم الاتحادي وقيام الولايات عن دارفور مخاطر كثيرة كانت ستعصف بها، لو أنها ظلت إقليماً أو ولاية واحدة على حالها، فمنطقة مترامية الأطراف تعادل مساحتها مساحة دولة عظمى مثل فرنسا، لا يمكن أن تُدار من عاصمة واحدة وبواسطة حكومة واحدة ومجلس تشريعي واحد، وبمستوى الحكم المحلي فقط، ولم تحظَ الحجج التي ساقتها الحركات المتمردة في جولات المفاوضات من أبوجا حتى الدوحة، بتأييد يؤبه له وسط قطاعات مجتمع دارفور، سوى بعض المظهريات السياسية في معسكرات النزوح وهي فئات من المجتمع يمكن تفهم دوافعها ورغباتها ومواقفها العاطفية المتشددة حينها، لكن في نطاق الوعي والإحساس العمل والموضوعي بقضية دارفور، لم يحظَ خيار الإقليم والتفكير فيه بما يضعه في خانة الشيء المهم الذي يحفل به.
> ولما كانت حركات دارفور المتمردة وبعض مؤيدي طرح الإقليم في الداخل يسعون إلى تطبيق عملي لفكرة جون قرنق بتجميع الهامش والأطراف ضد المركز، كانت قوى أخرى في دارفور تعمل على تأكيد جاد بأن خيار الولايات جعل المناطق والجغرافيا تشعر لأول مرة أنها تستطيع تحقيق قدر معقول من التنمية والخدمات وضبط الأمن وصناعة الاستقرار، وشعر المواطن في كل الولايات بأنه على مقربة من السلطة والقرار، بوجود حكومات ولائية ولجان أمن ومجالس تشريعية وهناك تناغم مع مستوى الحكم المحلي في المحليات، وليس بالإمكان أفضل مما كان..
> والأهم من كل هذا، عجز مستخدمو فكرة الإقليم خاصة بعض السياسيين وحاملي السلاح عن تسويق الفكرة وجعلها واقعاً يقف على قدمين، فلم يكُ هناك من يجرؤ ليقول بوضوح لا لبس فيه لأهل الولايات (إننا نريدكم في صف الحركة الشعبية التي ضمنت الجنوب لنرمي من وقوس واحدة ضد المركز..)!! كما لم يستطع هذا النفر من دعاة الإقليم إقناع المواطنين البسطاء بالعودة إلى مركزة السلطة مرة أخرى في النظام الإقليمي، ولم ينجحوا في إبراز ميزاته والفائدة السياسية منه والعائد من تطبيقه، فقد كان مجتمع دارفور بغمار ناسه في وادٍ، ورواد النادي السياسي المعارض في نادً آخر ..!
> اذا كانت فكرة الإقليم تقوم على تقديرات تجاوزها الزمن، وتوقعات لا يسندها واقع، فليس من الحكمة التمسك بها حين لفظها أهل دارفور وفروا منها فرار الصحيح من الأجرب، واقتنعوا أن وضعهم الحالي هو الأنسب والموائم لحياتهم واحتياجاتهم الفعلية وقضاياهم الأساسية..