رأي ومقالات

حسام عاصي : المسلسل التلفزيوني «الشعب ضد أوجيه سيمسون» يثير الجدل في المجتمع الأمريكي حول قضايا السود


في الساعة العاشرة صباح 3 اكتوبر/تشرين الأول عام 1995، انخفض عدد المكالمات التلفونية في الولايات المتحدة بنسبة 58٪، وتقلص حجم تداول الأسهم في بورصة نيويورك بنسبة 41٪ وقلّ استهلاك المياه لعدم استخدام المراحيض والمطابخ وكلّف انقطاع الناس عن العمل خسارة إنتاجية تعادل ما يقارب 480 مليون دولار، وذلك لأن أكثر من 100 مليون أمريكي، ومن ضمنهم الرئيس بيل كلينتون، كانوا متسمرين أمام شاشات التلفزيون أو بجانب أجهزة الراديو ليشاهدوا أو يسمعوا قرار الحكم على أشهر متهم قتل في تاريخ دولتهم وهو أوجيه سيمسون، الذي تمت تبرئته من تهمة قتل زوجته السابقة نيكول وعشيقها رون غولدمان في محاكمة دامت 133 يوما وقدمت 150 شاهدا وكلّفت 30 مليون دولار، فضلا عن التسبب في خسارة ما يعادل 40 مليارد دولار في الإنتاجية الوطنية وذلك لمتابعة الناس لها عبر وسائل الإعلام، التي كانت تبث أحداثها مباشرة، بدلا من أداء وظائفهم في العمل. فهي ضمت العناصر التي تهوس الشعب الأمريكي: العنصرية، الجنس، العنف، هوليوود والرياضة والشاهد الوحيد كان كلبا. فلا عجب أنها تدعى محاكمة القرن.
ورغم صدور حكم في قضية سيمسون، إلا أنها استمرت متداولة في وسائل الاعلام والكتب ومسلسلات التلفزيون والأفلام حتى يومنها هذا. وآخر هذه المسلسلات التلفزيونية، الذي يسجل الاحداث منذ لحظة اكتشاف جثتي الضحيتين حتى اصدار الحكم في 10 حلقات، هو «الشعب ضد أوجيه سيمسون: قصة جريمة»، المقتبس من كتاب خبير CNN في القانون جيفري توبين ومن اخراج رايان مرفي ومن بطولة جون ترافولتا، كوبا غودينغ جونيور، سارا بولسون ودافيد شويمر. ولسبر العوامل وراء هوس الشعب الأمريكي بهذه القضية، جلست مع كاتب ومخرج وابطال المسلسل لمناقشتها.
العامل الأول وراء اثارة اهتمام الشعب الأمريكي بهذه القضية هو طبعا سيمسون نفسه، الذي لم يكن مشهورا وحسب بل كان اسطورة امريكية حقق ما لم يحققه احد من قبله في رياضة كرة القدم الأمريكية، التي احترفها وهو لا يزال طالبا في الجامعة، وكسب ميدالية هايسمان لأفضل لاعب كرة قدم جامعي عام 1968.
وخلال سيرته الرياضية، التي دامت حتى عام 1979، لعب مع اشهر النوادي المحلية، حيث حطم الأرقام القياسية في الجري أكبر مسافة من اليارديات وحصد أهم الميداليات. وبعد اعتزاله الرياضة، أصبح معلق كرة قدم تلفزيونيا وممثلا هوليووديا: «نحن لا نتكلم عن لاعب محترف في دوري كرة القدم الأمريكية الوطني وحسب، بل لاعب أيقونة كان يستقطب الجماهير للملاعب»، يقول غودينغ، الذي يجسد دور سيمسون في المسلسل: «كان يملك قدرة فطرية جعلته يتفوق على كل من حوله ووصل غروره إلى درجة أنه صار يتكلم عن نفسه كطرف ثالث، ويقول: أنا لست رجلا أسود، أنا أوجيه سيمسون.»
ويذكر أن غودينغ كان فاز بجائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد عن أداء دور لاعب كرة قدم في ذروة سيرته المهنية، مستلهما من شخصية سيمسون، في فيلم «جيري ماغواير (1996)». أما في هذا المسلسل فهو يتقمص شخصيته وهو على حافة الإنهيار: «أنا أومن أن هؤلاء الرياضين لا يعتبرون أنفسهم أناسا عاديين وإنما آلهة وأنهم أفضل من بقية البشر لأن الذين حولهم يقنعوهم بذلك. ولكن في حالة سقوطهم، يُنبذون ويعيشون حياة بائسة»، يعلق الممثل.
بداية النهاية لهذا البطل المغوار تحصل في الساعة الثانية عشرة صباحا، يوم الثاني عشر من يونيو/حزيران 1994، حين تم العثور على جثتي زوجته السابقة نيكول وعشيقها رونالد غولدمان في بركة من دمهما على عتبة بيتها في ضاحية برينتوود في لوس أنجليس. نيكول كانت مطعونة مرات عدة في رأسها ورقبتها وطعنات رون كانت متفرقة في أنحاء جسده. ورغم أن سيمسون كان موجودا في شيكاغو في تلك اللحظة إلا أن فريق البحث الجنائي وجد أدلة قاطعة، كوجود دمه وخصل شعره وآثار قدميه في موقع الجريمة وبقع دم الضحيتين على ملابسه وسيارته وفي داخل بيته، تشير إلى أنه أرتكب الجريمة، فضلا عن تبين جرح حديث في يديه ناتج عن مقاومة الضحايا له ومكالمة تلفونية طلبت فيها نيكول النجدة منه.
سيمسون أنكر التهمة وفي 17 يونيو/حزيران اختفى عن وجه الأرض، تاركا رسالة قال فيها إنه بريء وأن لا أحد يشعر بالأسف عليه، مما جعل الناس يعتقدون بأنه كان خطاب انتحار. ولكن سرعان ما لمحه سائق دراجة نارية في سيارته، التي كان يقودها صديقه، وأخبر الشرطة، التي لاحقته بالعربيات والمروحيات في مطاردة دامت بضع ساعات وبُثت حيا على شبكات التلفزيون الأمريكية، بينما توقف ما يقارب 100 مليون أمريكي عن عملهم ليشاهدوا، بعيون غير مصدقة، اللحظة الفارقة في حياة عملاقهم، الذي كان يسلط مسدسا إلى رأسه ويهدد بالانتحار اذا حاولت الشرطة اعتقاله. وبعد أن نجح خبراء النفس بإقناعه في تسليم نفسه، تم اعتقاله ليواجه العدالة أمام القانون في محاكمة كان الإدعاء العام، بقيادة المدعية العامة مارشا كلارك، متأكدا من الفوز فيها.
«مارشا كانت جدية جدا ذات إيمان مطلق بأن الأدلة كانت واضحة ومثبتة. ولم تعر أي اهتمام لأمور اخرى. وهذا كانت مشكلتها»، توضح سارة بولسون، التي تجسد دور المدعية العامة كلارك.
ولكن كلارك لم تأخذ بالحسبان ثروة سيمسون التي مكنته من استئجار فريق مكوّن من أفضل محامي الولايات المتحدة للدفاع عنه، سُمي فريق الأحلام، بداية بقيادة المحامي اليهودي روبرت شابيرو، الذي تنحى لاحقا للمحامي الأسود جوني كوكران. وانضم لفريق الدفاع صديق سيمسون، روبرت كارداشيان (الأخوات كرداشيان)، وخبراء ادلة DNA ومدرسو قانون من جامعة هارفارد العريقة.
ويعتقد ترافولتا، الذي يجسد دور شابيرو، أن فريق المحامين كان على الأرجح يشعر بأن سيمسون ارتكب الجريمة ولكنهم كانوا يؤدون وظيفتهم كمحامين معتمدين على العناصر المهنية في هذا النظام القضائي بدون أي مراعاة للعوامل الإنسانية: «ما أدركته في هذه التجربة هو أن النظام القضائي ليس بالضرورة عادلا، لأنه مصمم على أن يكون منصفا من خلال الكلام القانوني، ولكن ليس من منطق انساني». يعلق ترافولترا، الذي يشارك أيضا كمنتج. وفي مشهد جدل حاد يدور بين شابيرو وكاردشيان، الذي صار يشك بمصداقية سيمسون، يقول شابيرو: ربما تشعر بأن ما نقوم به هو غير انساني، ولكن نحن محامون وليسو وعاظا.
فعلا، بدلا من مواجهة الأدلة القاطعة التي قدمها الادعاء ضد سيمسون، حوّل كوكران المحاكمة من قضية قتل رجل لزوجته إلى صراع مجتمعي حول القضايا العرقية ومظاهر عنصرية وعنف شرطة لوس أنجليس ضد السود، متهما ضابط مباحث عنصريا باختراع الأدلة وتلفيقها لسيمسون الأسود. منهج هذا الدفاع كان فعالا جدا لأنه ساهم في الاستحواذ على تعاطف المحلفين، الذي كان معظمهم من السود، مع المتهم. كما نجح في تحريك مشاعر واستقطاب دعم السود الأمريكيين، الذين كانوا ثاروا قبل 10 أعوام في لوس أنجليس في مواجهات ضارية ضد الشرطة، التي اتهموها بالعداء تجاههم. وسرعان ما تحولت المحاكمة إلى صراع بين البيض والسود، كاشفة عن انقسام عرقي حاد في المجتمع الأمريكي. فبينما كان ينادي السود بتبرئة سيمسون، مصرّين على أنه كان ضحية عنصرية الشرطة، كان البيض يعتبرونه قاتلا يستحق المعاقبة.
«كان هناك كثير من الإشاعات تعوم في الهواء. بعض الناس كانوا يصدقون بأنه بريء وأن الأدلة كانت غير صحيحة وكان أناس آخرون يؤمنون بأنه كان مذنبا»، يقول غودينغ، الذي استصعب أن يفهم شعور سيمسون في هذا المد والجزر من الآراء المتباينة عندما كان يؤدي دوره: «من خلال كل هذه الشخصيات والأحداث والظروف، رأيي عن براءته كان يتغيّر من يوم إلى يوم عبر مرحلة التصوير. كل يوم كانت هناك معلومات جديدة. وكانت هناك حالات كثيرة، وخاصة بعد سماع الحقائق، تتساءل كيف كان هو يشعر تجاه كل ذلك؟».
ويقر غودينغ أن العنصرية شائعة بين عناصر الشرطة الأمريكية ويسرد لي تجربة شاهد فيها ضابط شرطة يرفض قبول شرطي أسود، زميل له، في سكنه. ويعلل ذلك بمواجهة ضباط الشرطة البيض عنف السجناء السود في سجون الولايات المتحدة المدججة بهم، مما يترك انطباعا سلبيا عليهم ويخلق روح الكراهية فيهم تجاه كل شخص أسود.
كورتني فانس، الذي يلعب دور المحامي الأسود المخضرم كوكران، يوافق مع غودينغ ولكن، من منظوره، المحكمة كشفت عن تأثير الثراء والطبقة الاجتماعية على العدالة القانونية: «المحكمة أثبتت أنه اذا كنت تملك المال فسوف تكون احتمالات نجاحك في محاكمة أعلى بكثير من غيرك. وهذا ما ساهم في تبرئة سيمسون.»
محامو سيمسون لم ينجحوا في غرس الريب في شهادة ضابط المباحث العنصري وحسب، بل حققوا التشكيك في صحة أدلةDNA التي اشارت إلى وجود دم وخصل شعر سيمسون في موقع الجريمة، من خلال إثبات أنها كانت فاسدة وربما تم التلاعب بها.
«هناك تراكم هائل من الأدلة تشير إلى تورط سيمسون في الجريمة»، يعلق ترافولتا. «ولكن عليك أن تستخلص رأيك بنفسك من خلال دراسة الحقائق وفهم النظام القانوني، وبدون أن تكون هناك، لا يمكن أن تستنج قرارا يختلف عن ما شعرت به الأغلبية.»
ولكن رغم تباين الآراء وحدة الجدل داخل حلبة المحاكمة وخارجها، إلا أن المحلفين، كلهم سود ما عدا سيدتين من البيض ولم يكن أحد منهم يملك شهادة عالية، قرروا تبرئة سيمسون من قتل زوجته وعشيقها بعد 4 ساعات من المداولة فقط. هذا القرار كان انتصارا للسود أكثر منه انتصارا لسيمسون، الذي رغم تبرئته، بقي مذنبا في عيون الناس وخسر كل شيء في حياته: الثراء الأصدقاء والمكانة الإجتماعية. وبعد عامين، تمت إدانته في محكمة مدنية، بالمسؤولية عن مقتل زوجته وعشيقها وحُكم عليه بدفع 33 مليون دولار تعويضات لأهل ضحاياه. وفي عام 2007 تم اعتقاله وثم ادانته بتهمة سرقة مسلحة ومحاولة اختطاف وحُكم عليه بالسجن لمدة 33 عاما.
محاكمة القرن كانت محورا مهما في تاريخ الولايات المتحدة، غيّرت وجه المجتمع الأمريكي وخلقت ثقافة شعبية جديدة مبنية على البث الإعلامي اللا منقطع والتشهير. فقبل 1994، لم تكن هناك المحطات التي تبث الأخبار على مدار الساعة، ولكن نجاح شبكتي «سي أن أن» و «كورت نيوز» في تحطيم أرقام قياسية في نسب المشاهدين خلال المحاكمة، أدى إلى تفتت الإعلام الأمريكي بفضل ظهور عشرات المحطات مثل «فوكس نيوز»، و«أن بي سي» و «سي أس بان» وغيرها، من أجل تلبية رغبة الأمريكيين بتغطية هذا النوع من الأحداث.
كما أنها خلقت نوعا جديدا من المشاهير، إذ أن كل من كانت له علاقة بها، تحول إلى شهير وكثير منهم تركوا وظائفهم المهنية ليستثمروا حياة الشهرة الجديدة ومن ضمنهم المدعية العامة، كلارك، التي تحولت إلى كاتبة وخبيرة قانون اعلامية. كما عقد العديد منهم، ومن ضمنهم المحامون والمحلفون والشهود وحتى القاضي نفسه، صفقات كتب مع دور نشر عالمية وظهروا في وسائل الإعلام للحديث عن تجربتهم.
«إنها غيّرت حياتي تماما»، يضحك كاتب القصة توبين، الذي تحول من مدع عام إلى إعلامي متخصص في القانون: «أنا انخرطت في المحاكمة مثل غيري وبدأت سيرة مهنة الصحافة وأصبحت واحدا من خبراء القانون الإعلاميين، وهي مهنة لم تكن موجودة من قبل، ولهذا يسمون زملائي من خبراء القانون الإعلاميين، جيل أوجيه.»
ولكن أكبر صفقة كانت من حظ بنات صديق سيمسون روبرت كارداشيان، اللواتي أصبحن أكثر الفتيات شهرة في العالم بفضل برنامج تلفزيون واقعي يبث أحداث حياتهن على مدار الساعة. يذكر أن سيمسون كان عراب كيم كارداشيان، التي باتت أكثر المشاهير الإناث دخلا في الولايات المتحدة. محققة ما يعادل 55 مليون دولار العام الماضي.
«من المفارقات أن روبرت كارداشيان كان متدينا جدا وقريبا جدا من ربه ومخلصا لصديقه سيبمسون. وكان منعزلا ومتواضعا جدا، ولم يكن معنيا بالشهرة وينفرها»، يقول دافيد شويمر، الذي يلعب دور كارداشيان، الذي توفي عام 2003 بسرطان المريء.
مسلسل «الشعب ضد أوجية سيمسون: قصة جريمة» لن يثبت إن كان بطله ضحية أم جلادا، بيد أنه أثار الجدل مرة أخرى في المجمتع الأمريكي في قضايا القانون والعرق. وسوف تنطلق قريبا أفلام وثائقية وروائية أخرى تدعي أن سيمسون خاض هذه المعركة القانونية من أجل حماية ابنه، الذي فعلا كان وراء عملية القتل. والنظرية الأخرى مبنية على اعتراف مجرم معروف بارتكاب الجريمة وأن سيمسون استأجره لفعل ذلك. ولكن بغض النظر عن حقيقة ما حدث في يونيو/حزيران 1994، يعتبر انهيار سيمسون، الذي وُلد عام 1947 في سان فرانسيسكو، أكبر ثاني تراجيديا في تاريخ أمريكا المعاصر بعد اغتيال الرئيس كينيدي عام 1963.

حسام عاصي