الصادق الرزيقي

استفتاء دارفور.. تاريخ جديد


> منذ صباح أمس، يكتب مواطنو ولايات دارفور ولأول مرة في تاريخهم، سطراً جديداً في تاريخ هذه المنطقة، بممارسة اختيارهم الحر للوضع الإداري الذي سيحكمهم، وهو حدث نادر الحدوث أعطى لأول مرة الحق للمواطن في تحديد ماذا يريد.. ففي السابق كانت الحكومات في الخرطوم هي التي تختار مستويات الحكم في السودان وتحددها وتختارها، لكن اليوم تنتخب دارفور مستقبلها عندما يقف أكثر من ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف مواطن في ولايات دارفور الخمس، تحت شمس النهار الحارقة في طوابير طويلة، ليدلوا بأصواتهم في الاستفتاء الإداري للإنحياز لأحد الخيارين، الوضع الحالي وهو نظام الولايات أو العودة إلى نظام الإقليم الذي كان العهد به قبل ما يقارب الربع قرن من الزمان.
> هذا الحدث بكل ظلاله السياسية الكثيفة، يمثل انعطافاً هائلاً في الممارسة الديمقراطية نحو الأفضل، وصار بإمكان المواطن السوداني الفصل والحسم في كل الشأن السياسي والقضايا الشائكة والخلافات العميقة عن طريق صناديق الاقتراع، عبر الانتخابات والاستفتاءات، وهذا سلوك متحضر وبناء وفاعل يؤسس لقناعات سترسخ مع الزمن وتوفر علينا جيمعاً الدم والمال والجهد الذي يضيع في المنازعات وما لا طائل تحته، وفي الحرب التي أكلت الأخضر واليابس، ولم تبقِ حتى على الشوك المسوّد..!
> وشهد يوم أمس وهو اليوم الأول للاستفتاء، تدافعاً جماهيرياً في كل المناطق في ولايات دارفور الخمس، في مشهد غير مسبوق لم تألفه أو تعرفه دارفور من قبل، وكان الناس في السابق يحتشدون تحت رايات الدعاية السياسية للأحزاب في الانتخابات والتنافسات التي تجري، تحركهم الانتماءات والعصبيات السياسية وقوة الآصرة التنظيمية لدى كل حزب وكيان سياسي، لكن أن يتدافع الناس وحدهم بلا دعاية حزبية أو تحريض، بمحض إرادتهم للتقرير في أمر على درجة عالية من الأهمية، لهو حدث فريد غير مسبوق يتسحق الانتباه له ومعرفة أبعاده ودلالاته على المديين القريب والبعيد.
> نحن اليوم نقف على عتبة أخرى من عتبات تاريخ دارفور المجيد، لأنها بعد هذا الاستفتاء تكون قد تجاوزت الخلافات حول وضعها وكيفية إدارة وحكم نفسها، لأن الاختيار الحُر الطوعي وبقناعة نابعة من أعماق تجارب وأنماط مختلفة عرفتها في نظم الحكم والإدارة، هو الذي يجعل المواطن يشعر بأنه شريك حقيقي في صناعه واقعه ومستقبله وحياته ومستويات الحكم التي يريدها لنفسه وهو على قناعة إنها الأسلوب الأمثل لتوفير الأمن والاستقرار والطمأنينة والخدمات والتنمية..
> لابد لنا في مثل هذا اليوم أن نرفع التحية ونشيد بكل مواطني ولايات دارفور لشعورهم بحجم المسؤولية التاريخية الملقاة على عواتقهم، وحرصهم الكبير على تقديم الأنموذج الأفضل في كيفية التفاعل الإيجابي مع القضايا والهموم، والاتسام بهذه الروح الجبارة لتجاوز الماضي بكل نقاطه السوداء الكالحة، واستشراف واقع جديد.
> فهؤلاء المواطنين القابعين في رمال المالحة ووادي هور وجروف وطين الرودم ودفاق وعند جبال سي وجبل مون وجبل مرة وجبال كرقو وجبال كاورا وعند وديان أزوم وكجي وباري وأبقى راجل وسهول تُلُس قريضة وعد الفرسان وقيزان الضعين وأبو مطارق وعديلة وأب كارنكا والطويشة وأم كدادة واللعيت جار النبي ومنحدرات كرنوي ووادي الطينة وسفوح كبكابية وتارني وشنقلي طوباي وكلمندو ومنواشي وشعيرية وكاس وام دُخُن وكرولي وجلدو وروكي رو وقلول ومزبد وخور برنغا وفي أقصى بقعة في دار قِمر.. وفي نيالا والفاشر والجنينة وزالنجي والضعين، يستحقون أن نقف إجلالاً لهم واحتراماً..لم يلتفتوا لدعاوى التمرد وترهات المعارضة بمقاطعة الاستفتاء او العمل ضده.. لقد فاض حماسهم وطغى..وهاهم يكتبون ملحمة تاريخية فريدة سيسجلها التاريخ لهم، وستبقى بقعة مضيئة وسط ركام الحرب والخراب والتمرد الذي عاث فساداً في دارفور لثلاثة عشر عاماً، فهاهي دارفور تنهض من أكوام الرماد لتستعيد عافيتها وتنطلق..