مقالات متنوعة

محمد لطيف : بل من أين أتى.. هؤلاء الناس


كان التدافع والهرج والمهرج سيد الموقف.. وكانت المجموعات النظامية تحاول السيطرة على الحشود المتدافعة نحو المسرح الذي نصب في باحة مسجد الشيخ الياقوت بنواحي جبل الأولياء.. وهذا اسمه الصحيح.. مساء أمس الأول.. كان الشيخ الحبيب الجفري قد وصل إلى هناك بدعوة كريمة من الشيخ ضمن جولته التي تشهدها الخرطوم هذه الأيام.. فالرجل منذ أن وطئت قدماه أرض الخرطوم.. يوزع وقته بين المساجد والمنتديات ودور العلم.. لا هم له إلا الدعوة للتسامح والتوادد والمحبة.. وإفشاء السلام.. ونشر ثقافة الحوار.. وإعلاء قيمة احترام الآخر.. قبلها بيوم حين دلفت إلى ساحة مسجد السيد علي الميرغني بالخرطوم بحري.. معقل شيوخنا الختمية.. لم أكن أتوقع حشدا كذلك الحشد.. ولم يدر بخلدي أن أجد أناسا يعتلون قبة المسجد ومآذنه.. وجدتني أسأل نفسي.. من أين أتى هؤلاء الناس..؟ حشود دافعها المحبة.. ولا شيء غير المحبة.. فليس للجفري خيل يهديها ولا مال.. ولكن الجفري في تلك الليلة لم يكن في حاجة لمن ينبهه لحسن المقال.. فذاك نهجه.. وتلك صنعته.. وقفت مشدوها والحبيب الجفري يحمل الآلاف المؤلفة في تلك الليلة على أن يعاهدوا الله عهدا قاطعا لا نكوص عنه بالعفو عن من ظلم.. وبالتسامح وبالتراحم.. كل ذلك والحبيب لا يحمل في يده مسدسا ولا سوطا.. بل يحمل لسانا تربى على حمل الناس على المحبة والتسامح.. قلت في سري.. أما زال زمان المعجزات باقيا فينا..؟
غير أن ما حدث في الشيخ الياقوت كان جد مختلف.. ففيما كان الناس.. المريدون والأحباب يتدافعون.. والشرطة تحاول صدهم وتنظيمهم.. وويل لكل من صد مريدين.. أو حجب محبين عن حبيب.. كانت المعجزة الثانية تنسج خيوطها أمام عيني.. فجأة شق عنان السماء صوت الحبيب الجفري.. مخاطبا من..؟ ليس المريدين المتزاحمين من حول المسرح.. كلا.. بل أفراد فريق التأمين الذين يحاولون صدهم وتنظيمهم.. جاء الصوت الجهوري: إلى الإخوة الذين يحاولون تأميننا.. اجلسوا.. اجلسوا إذا سمحتم.. فأهل الدار يتولون تأميننا وتأمينكم إن شاء الله.. تفضلوا بالجلوس.. هل تدرون ماذا حدث بعد ذلك..؟ استجاب أفراد فريق التأمين بالجلوس أو بالانسحاب.. وكانت المفاجأة أن أولئك المتدافعين من المريدين والأحباب.. قد لزم كل مكانه جلوسا..!!
لقد تجلت عبقرية الحبيب الجفري.. في أمرين.. انتقاء الخطاب.. واختيار المخاطب.. لا شك أن فريق التأمين قد شعر بالتقدير والشيخ يستأذنهم في الجلوس.. ولا شك أن المريدين قد شعروا بالحرج ولم يجدوا مكافأة لشيخهم الذي حماهم من دفع الجند غير أن يسارعوا بالجلوس حتى قبل أولئك الذين طلب إليهم الجلوس.. ولعل هذا يعكس جانبا واحدا من أدب التصوف الذي لا يعرف الغلظة في القول.. ولا الشدة في الحديث.. وهذا ما ظل ينثره الحبيب الجفري منذ أن بدأ برنامجه التثقيفي في الخرطوم.. وكان الشيخ يحرص قي قاتحة كل محاضرة على تقديم تعريف للتصوف وتقديم نماذج مشرقة له.. ثم يعرج على نقطة استراتيجية لعل كل من يسمع يدرك مدلولها ويفهم ماذا يريد أن يقول الجفري دون أن يفصح.. إذ يؤكد على أن محبة آل بيت رسول الله لا تعني بأي حال من الأحوال شتم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم..!