عبد الجليل سليمان

سلمى معروف.. قيمة الفرح المضاعفة


“كل شيء يوحي بالبؤس عند مرورك بالمبنى ذي الجدران العالية المحاطة بـ (أسلا شائكة)، المبنى قديم يعود لحقبة الاستعمار.. بخلت عليه الأيادي بلمسة تعمير تحترم آدمية وإنسانية ساكنيه، لافتة على الطريق الرئيس بشارع الملازمين كتب عليها سجن النساء أو دار التائبات، على مرأى ومسمع البشر، ولكن بالداخل ما لا يخطر على قلب وعقل بشر، أدق توصيف يمكن أن يطلق على ساكني هذا المكان هو (البؤساء). حياة لربما تنعدم فيها معايير الكرامة والإنسانية، من يمر يومياً بجوار السجن ممن هم خارجه ربما لم يخطر ببالهم أي حياة تعيشها هؤلاء النسوة خلف هذه الجدران القديمة، فقط قد يكتفي المارة بإغلاق أنوفهم من رائحة الأبخرة المنبعثة من (بالوعات) الصرف الصحي التي تسد جنبات المكان، ويمرون هكذا دون أن يلقوا بالاً لمن هم داخله. من هنا تبدأ المعاناة وأنت تلج إلى داخل السجن، تستقبلك الروائح التي تزكم الأنوف، داخل السجن حياة بلا حياة وواقع مرير تكابده النساء.. حقائق صادمة”
لو اكتفت بذلك المدخل لأولجها القائمة القصيرة لجائزة الصحافة العربية التي ينظمها مسابقتها نادي دبي للصحافة. وسلمى معروف التي اختارتها لجنة الجائزة ضمن هذه القائمة كانت دفعت بتحقيقها الرائع المنشور في (اليوم التالي) – أكتوبر 2015 – والموسوم بــ (سجن النساء بأم درمان.. حقائق صادمة) إلى المنافسة في أرفع جائزة للصحافة في الشرق الأوسط ضمن فئة الصحافة الإنسانية.
ولأن المقام ليس للمديح والإطراء، وإن كانت الزميلة سلمى تستحق أكثر من ذلك، فاسمحوا لي اهتبال فرحتي بترشحها إلى هذه الجائزة للإشارة إلى أمور عديدة ينبغي لصحافتنا أن تنتبه إليها، ولعل أولها هو ما قصدته بإيراد المدخل القصصي الرائع الذي كتبته سلمى ديباجة لتحقيقها عن سجن النساء، وفي ظني أنه كان (الفرس) الذي حمل التحقيق على صهوته إلى القائمة القصيرة، ولو كانت كتبته بطريقة خبرية تقليدية لربما لم تكن لتبلغ هذه المرحلة، والله أعلم.
ما عادت الصحافة أخبارًا تُؤثر، فالأخبار (التقليدية) تتطاير بسرعة البرق في كل ثانية بل في كل جزء منها عبر الوسائط التقينة الحديثة، ولكنها تصل إلى المستهدفين منها هامدة بدون روح، سرعان ما ينسونها فرط تشابهها وجمودها، لكنها فيما لو ناسلت من (نفسها) حكايات وقصصًا إنسانية، لا شك ستشغل حيِّزًا في الذاكرة، وهكذا كان شأن سجن النساء (خبرًا صغيرًا)، اشتغلت عليه سلمى معروف بحرفية ومهارة فنشأ وترعرع بين يديها تحقيقًا إنسانيًا فتح بترشحه لهذه الجائزة كوة للأمل في جدران صحافة الراهنة المعتمة.
ونحن نحتفل بانصرام ثلاث سنوات لصدور يوميتنا هذه، ها هي سلمى تمنح فرحتنا قيمة مضاعفة ومضافة لكن ليس على طريقة مصلحة الضرائب. وحرِّي بنا أن تشير في مقام (بت معرف) الرفيع مباشرة إلى عبارة المحقق الصحفي الفذ والروائي الساحر (غابرييل غارسيا ماركيز)، حين قال: “‬إن التحقيق الصحفي أفضل شيء في الحياة”، ولم يقل الرواية، رغم أنه حاز بسببها على جائزة نوبل 1982م، ولا شك لدي أن ماركيز عندما أطلق تلك العبارة كان يتحدث عن التحقيق (الإنساني)، وليس سواه، كونه قابلًا للتطور إلى رواية، وهكذا يمكن لسلمى أن تستلهم فكرة روايتها الأولى من قصص سجن النساء، لم لا؟ والتجارب مبذولة أمامنا، فها هو المحقق الصحافي المصري صالح مرسي استلهم من تحقيقه له عن تجربة قهوجي في منطقة شعبية روايته الكداب، وفتحي‮ ‬غانم استهلم من تحقيقه عن قرية القرنة في الأقصر فكتب رواية الجبل وصبري موسى كتب فساد الأمكنة بوحي من تحقيق أنجزه عن منطقة مرسي علم وجمال الغيطاني استوحى رواية الغريب عن تحقيق عن العيد (وسط الجنود) في حرب الاستنزاف.
ألف مبروك سلمى معروف، و(اليوم التالي) في عيديكما.