رأي ومقالات

“تخلق المدن” قبل 10 سنوات كان “أبو شوك” معسكراً للنازحين.. لكنه اليوم حي من أحياء الفاشر بعدما انتصر أهله على معضلة الحرب


اعتادت فاطمة التحامل على سنواتها التسع وهي تستيقظ فجر كل يوم مع والدتها للاصطفاف باكراً في صف طويل من النسوة اللائي شردتهن الحرب لجلب حصة أسرهن من المياه من بئر في واحد من معسكرات دارفور البائسة. لو سئلت فاطمة عن أمنيتها فهي بلا شك ستكون الحصول على حاجة أسرتها من المياه من (حنفية) موصولة إلى شبكة مياه. صنبور المياه لا يزاال حلمًا عصيًا لأكثر من 100 ألف من الأنفس يغص بهم معسكر (أبو شوك)؛ أحد معسكرات النازحين في ولاية شمال دارفور.
عندما اندلعت الحرب في إقليم دارفور في 2003 بدأ الآلاف في النزوح تباعاً إلى الضاحية الشمالية من مدينة الفاشر- أكبر مدن الإقليم اتقاء خطر الموت الذي تغشّى قراهم.
كان أغلب الذين شردتهم الحرب معدمين تماماً ولم يكن بمقدورهم سوى نصب خيام من البلاستيك لا تدفع حمأة صيف ولا غائلة شتاء وبالطبع لا تقيهم صيب الخريف الهامع في تلك الأنحاء.
لم يكن أمام هؤلاء البؤساء سوى ربط بطونهم وانتظار المنظمات الإنسانية، بيد أنه حينما وصلت إليهم كان العطاء جد شحيح مما اضطرهم للبحث عن وسيلة كسب تقيم أودهم وأود من يعيلونهم.
عمل بعضهم عمال يومية في المزارع الممتدة على أطراف الفاشر وعمل آخرون في مجال البناء لكن لم يكن أمام قسم كبير منهم سوى التسول في طرقات المدينة لأن سوق العمل لا يستوعب مثل هذا الكم من جيوش العطالى.
كان هذا قبل أكثر من 10 سنوات لكن اليوم فإن معسكر النازحين ليس سوى امتداد لمدينة الفاشر التي باتت مقسمة إلى نصفين، لكنهما بالطبع غير متساويين لا في الخدمات ولا في الأمن ومن نافلة القول في رغد العيش.
شيئاً فشيئاً ومع توفر دخل على محدوديته بدأ النازحون في معاونة بعضهم البعض في بناء منازل من الطين والقش بعد سنوات قضوها يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
مع تمدد المنازل المبتناة من الطين قررت السلطات تخصيص 100 متر مربع فقط لكل أسرة لبناء منزلها حتى تتسع المساحة لجميع النازحين.
هذه المساحة على ضيقها كانت أكثر رحابة بالنسبة للنازحين لأن إمكاناتهم أصلاً لا تتيح أكثر من بناء غرفة يتيمة يتم تسويرها بجدار يفصل بين البيوت أو لا يفصل بينها من شدة قصره.
منحتهم بيوتهم المتواضعة إحساساً بالأمل والاستقرار فصاروا أكثر عزماً على العمل وزيادة مداخيلهم لتتسع بذلك آمالهم في إرسال أبنائهم إلى المدارس بدلاً عن العمل في مهن هامشية أو التسول في طرقات المدينة.
توسع دخل قسم كبير من النازحين فتمكن بعضهم من فتح متاجر صغيرة تباع فيها الخضروات والمواد التموينية بموازين مستدقة حتى تكون أسعارها زهيدة تتناسب ودخل الزبائن شبه المعدمين.
شيئاً فشيئاً انتشرت المتاجر حتى باتت سوقاً تباع فيه كل السلع وينافس سوق المدينة الرئيس الذي لم يعد النازحون مضطرين للذهاب إليه للتبضع.
ازدهر السوق أكثر لأن أغلب سكان الأحياء الطرفية من مدينة الفاشر أصبحوا يتذودون بحاجياتهم من سوق المعسكر لقربه ولأسعاره التنافسية ما ترتب عليه زيادة في مداخيل أصحاب المتاجر ومن ثم أطلت التفاوتات برأسها وإن كانت ضئيلة لكنها أسست لتراتبية ما تبدت في تنوع سلع ذلك السوق الوليد.
في السوق ذاك تستطيع أن تلحظ قسماً تبيع فيه النسوة أنواعاً مختلفة من المشويات والمشروبات البلدية هو اليوم أكثر شهرة من سوق المواشي القديم قدم مدينة الفاشر نفسها، والذي كان عنواناً لهذه التجارة، لكنه اليوم وصيف للسوق الجديد. في أقسام أخرى تبصر أوانٍ وملبوسات وتوابل بل ومعدات والكترونيات .
مع هذه التغيرات في ديموغرافيا المدينة مدت السلطات طريق أسفلت يوصلها بالمعسكر سهل من حركة المركبات العامة وأضاف (أبو شوك) إلى أحياء الفاشر.
ضاقت الفوراق الطبقية من الناحية المعنوية على الأقل ما بين قاطني المدينة ومن يعمرون معسكر النزوح الذي كان. لكن ما فتيء ساكنو المعسكر يتطلعون لبلوغ الخدمات مثابتهم مثلهم كمثل الآخرين في الجانب الآخر من الجوار؛ تمثلت التطلعات في شبكتي مياه وكهرباء ومدارس تحصن أبناءهم من أمية تتربص بهم، هذا على نحو عاجل وهناك الكثير الذي ينتظر أوانه المؤاتي.
بالنسبة للعمدة أحمد يعقوب- أحد عمد القبائل الذين يتمتعون بنفوذ في معسكر (أبو شوك)- إنهم الآن أفضل حالاً من ذلك الضنك الذي فتك بهم في سنوات نزوحهم الأولى.
“قست علينا الحرب لكننا متفائلون لأننا نؤمن بالله”، يقول يعقوب وهو يشير إلى مسجد شُيد حديثاً قبل أن يضيف: “سنبني مزيداً من المدارس ورياض الأطفال لكننا نحتاج العون سواء من الحكومة أو من سواها”.
هذا الأمل الوامض في قتام الحرب استنهض الشيخ سليمان عبد الله الذي نجح لتوه في تشييد خلوة لتحفيظ القرآن للأطفال الذين لم تتح لهم فرصة الذهاب إلى المدرسة.
خلوة عبد الله التي شيدت بجهد شعبي ليست سوى مساحة لا تزيد عن 50 متراً مربعاً سورت بجدار من الطين وفرشت عليها سجادات بعضها منسوج من سعف أشجار الدوم.
يتزاحم الصبية في الصفوف الأولى من هذه المساحة بينما تصطف الصبايا اللائي لا تزيد أعمارهن عن 10 سنوات في مؤخرة الأجساد الضاوية التي تضمها المساحة الشحيحة، والكل يمسك بنسخ من أجزاء القرآن الكريم أو ألواح خشبية كتبت عليها آيات قرآنية قصيرة.
يتولى عبد الله تحفيظ القرآن للأطفال نحو 4 ساعات من الصباح ونحو ساعتين عند الأصيل يومياً، أمر يشي بتصميم ذويهم على تنشئتهم على قيم وهدى دينهم.
بعدما أمر عبد الله أحد الأطفال بمساعدة آخر أصغر سناً لاتقان النطق بآية قرآنية بشكل صحيح قال لي: “أحضهم على مساعدة بعضهم البعض لأننا نحتاج للتآزر لننهض معاً”. قيمة التعاضد هذه هي التي مكنت النازحين من تخفيف آثار الحرب عليهم، هكذا يفصح عبد الله في تؤدة الواثق، ويؤيده يعقوب بهزة من رأسه وهو يبتسم؛ وعيناه مصوبتان ناحية الأطفال يرتلون القرآن، ويصيخ بسمعه إليهم حتى يصحح في ما بعد من يحتاج إلى تصحيح منهم.
وأنا أغادر معسكر (أبو شوك) بأزقته الضيقة قبل أن يطويها الظلام سألت يعقوب؛ هل ستعودون إلى قراكم لو تحقق السلام؟ رد بخليط من السخرية والجد: “وقتها تعال إلينا وستجد معسكرنا هو العاصمة”، يقصد مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور

اليوم التالي