جعفر عباس

عبدالمجيد الزهراني وأمل دنقل (1 و 2)


عبدالمجيد الزهراني وأمل دنقل (1)
نال الشاعر المصري الراحل أمل دنقل لقب الناطق الشعبي باسم العرب، بعد ذيوع قصيدته «لا تُصالح»، التي رفض فيها اتفاقية السلام التي أبرمها الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع إسرائيل، والتي تصاعدت بعدها دعوات التطبيع والمصالحة مع إسرائيل: لا تصالح على الدم.. حتى بدم! لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ، أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟ أعيناه عينا أخيك؟! وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك بيدٍ سيفها أثْكَلك؟ سيقولون: ها نحن أبناء عم. قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك……. لا تصالح ولو توَّجوك بتاج الإمارة، كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ..؟ وكيف تصير المليكَ.. على أوجهِ البهجة المستعارة؟ كيف تنظر في يد من صافحوك.. فلا تبصر الدم.. في كل كف؟ إن سهمًا أتاني من الخلف.. سوف يجيئك من ألف خلف.. فالدم -الآن- صار وسامًا وشارة.. لا تصالح كيف ترجو غدًا.. لوليد ينام؟ كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام وهو يكبر -بين يديك- بقلب مُنكَّس؟ لا تصالح ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام وارْوِ قلبك بالدم.. واروِ التراب المقدَّس.. واروِ أسلافَكَ الراقدين.. إلى أن تردَّ عليك العظام!
وألهمت قصيدة دنقل كثيرا من الشعراء، فجاروها، وعارضوها، وكان أبناء جيلي يجدون المتنفس في الشعر لينسيهم الخيبات والأحلام التي تحولت إلى كوابيس مزمنة ووبائية، ومازالت ذاكرتي تختزن قصيدة من الشعر النبطي الشعبي للشاعر السعودي المجيد عبدالمجيد الزهراني يحثنا فيها على عدم التصالح، مع أوضاعنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية البائسة، والشعر عندي هو الشعر سواء كان بالعامية أو الفصحى، طالما هو حافل بالمعاني، وحسن السبك والحبك، ويحل في القلب أهلا وينزل سهلا.
يقول الزهراني: دام غيرك صار يتعشى لحم غزلان وأنت تتعشى مطبّق حيل مالح.. لا تصالح دام ثوبك ما هو مكوي وناقص إزرارين ضاعت ودام ما عندك ثمن تشري المشالح.. لا تصالح!! (لغير الخليجيين من القراء: المطبق أكلة شعبية سعودية، والمشالح هي البشوت وهي صنف من اللباس المصنوع من القماش الفاخر يرتديه علية القوم فقط)
فعلا لا معنى للتصالح بين الحوت والسردين، وقد ظللت احتفظ بقصاصات من أراجيز الزهراني الغاضبة منذ سنوات، وأحس أنها لسان حالي وأحوال الملايين من أمثالي:
حط فقر حط جوع.. حط كم شاشة غبية.. حط أغاني تافهة لأحلى صبية.. حط ترشيح أغلبية.. تلقى دولة عربية
بكلمات بسيطة، ليس فيها زيطة أو زمبليطة، وغير مكلفة، ويفهمها ساقط الابتدائية، وحامل درجة الدكتوراه، لخص الزهراني حكايتنا، وأخرس الشعراء المنافقين الذين يصورون حياتنا وكأننا سلفا في جنات النعيم!! ولكنني اختلف معه في موضوع مؤتمرات السلام وأعتقد أنَّه غير مواكب وغير متعولم:
قبل تبدأ مؤتمر قمة سلام حط كم قارورة موية.. حط كم منديل فاين.. وأي مشروع أو كلام.. جهز الصالة وكم كرسي وكم واحد ينام.
هل هذا كلام يا عبدالمجيد؟ ما فيها شيء إن كم واحد من الجماعة نائمون، طالما السلاح صاحي!! وشاعرنا الحكيم يقول: ناموا ولا تستيقظوا… ما فاز إلا النُّوَّم!! ثم إنك لا تعرف أن الأمور كلها «مترتبة»، ويسري عليها حكم صلاة الجنازة، فهناك من يفكر ويقرر نيابة عنا، ولا بأس في أن ننام قريري الأعين، طالما أن القرارات ستأتينا حارَّة من الفرن، ولولا الانتشار الوبائي للنوم في أوساطنا، مما يجعل موظفي القطاع العام في حالة إغفاءة شبه دائمة، لانهارت أجهزتنا الحكومية، فنوم الظالم والعاجز عائده إيجابي!
.
عبدالمجيد الزهراني وأمل دنقل (2)

أوردت أمس بضعة أبيات من قصيدة أمل دنقل التي حضنا فيها على عدم مصالحة إسرائيل، وأتبعته بما قاله الشاعر السعودي المبدع عبدالمجيد الزهراني، في رفض التطبيع مع الجوع وبؤس الحال، ويطيب لي أن أنصح الزهراني بعدم الخوض في السياسة وأن يتفرغ للغزل، فالغزل نوع من المدح، والمدح يؤكل عيشًا مستوردًا.
وطاوعني يا عبدالمجيد ولِم لسانك، ولا تتحرش بأهل السلطة والجاه، وأعطهم الفرصة كي يضعوا الخطة النهائية لتحرير الأراضي المحتلة، بعد أن تستقيم الأمور في الأراضي «المختلة»، بنهاية القرن الحالي، وإذا ركبت رأسك ولم تسحب الكلام أدناه: فسيتم سحب لسانك من لغاليغه، توضيح الزهراني لا يقصد بكلمة «بلد» في الأبيات التالية لبنان بل يقولها بلسان كل مواطن عربي:
يا بلد يا مُحترم جدًا / ولا هو مُحترم / يا بلد راغب علامه
يا بلد نجوى كرم / يا بلد صاير على هالكون عاله
يا بلد يستورد الصابون / ويصدّر: زباله
يا بلد يافا وحيفا / والله (مالك الاّ هيفا)
يا بلد إملا الفراغ / يا بلد وتفضّل أعرب:
بلد المليون مُستشهد غَدا / بلد المليون مُطرب..!
يا بلد.. يا مكروفون..! يا رشح.. يا زكمه
ويا كثرة سعال / يا بلد يبدا الإجابة / قبل ما يقرا السؤال!!
هاذي العروبة / كل واحد منشغل في كيّ ثوبه
ما دفعنا لو دفعنا / عن فلسطين الشظيّة
ما حمينا طفل واحد / من رصاصة بندقيّة
يعني نتكلم وفي كل القضايا / بسّ ما نحمل قضيّة!!
طزّ يا شعب الكلام / طزّ يا شعب المحبة والسلام
طزّ يا شعبٍ نسي يبكي على الدرّة ولكن / ما نسي يضحك مع عادل إمام!!
(طز كلمة تركية تعني «الملح» وهي ليست كلمة نابية لأنّ التجار كانوا يستخدمونها مع جباة الضرائب الأتراك يوم كان الملح معفىً من الضرائب للتدليل على أن البضائع المكدسة في الأكياس «طز»، وهكذا صارت تعني «الاستخفاف/ الاستهبال»)
يا بلد والله ورب البيت والشاهي ودخّان الحقيقة
ودّي الثم ريحة القدس العتيقة
يمكن أكسر حاجز الدمع الثقيل
يمكن أحضن
ثوب طفلة في الجليل
يمكن أكتب عن وجودي
عن إهانة شيخ في قبضة يهودي
عن بلادي كيف نامت في سرير الذلّ تتعاطى السجاير!!
يا بلد هذا كلامي:
واضح وسهل ونظامي
بلد المليون مُخبر
ما قدر يمسك حرامي (فعلا 13 جهاز أمن فلسطيني لم يقع في أيديها حرامي إسرائيلي، فجميع من تعتقلهم تلك الأجهزة فلسطينيون).