مقالات متنوعة

حصة الحمود الصباح : “كن.. إنسانا”


في كتابه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”، يقول الفقيه والفيلسوف أبو الوليد ابن رشد: لا يمكن أن يعطينا الله عقولا للتمييز بين الخير والشر.. الحق والباطل، ثم يكلفنا بشرائع تناقض هذه العقول.

العقل والفطرة يقفان دائما وأبدا مع شريعة الرحمة والتآلف والتسامح بين الناس، وإن كان الرفق بالحيوان من سمات وتعاليم كل الأديان فكيف بالتعايش السلمي بين البشر بمختلف أفكارهم وعقائدهم وأعراقهم، فالقرآن الكريم يخاطب الناس جميعا بتعاليمه، وإن كان الله عز وجل لم يجعل من رسولنا الكريم حسيبا ومسيطرا على الناس، ومكرها لهم على الدين، فكيف بمن هم دونه الذين نصبوا أنفسهم وكلاء لله على خلقه، يكفرون هذا، ويحتقرون ذاك، ويحرضون على تلك، ويصنفون الناس وفق أهوائهم وخيالاتهم، ويخدعون الناس بشعارات عن الرحمة والتسامح لا نراها للأسف في واقع أليم مليء بالاحتقان والاستقطاب والتحريض، والمحزن أن ترى من يلوي عنق الآيات ويفسرها على غير مقصدها، فنجد للأسف من يحتج للتسلط على الناس وتزكية نفسه على المخالف له بالآية الكريمة “كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر”، والمتدبر للمعنى يلاحظ بوضوح أن الله جل وعلا يقول أخرجت للناس أي لنشر مفهوم الرحمة والتسامح من أجل الناس، ولم يقل أخرجت بين الناس بخيرها وشرها، ولكن معنى الآية مقيد بالتدبر والفهم، ثم بالتطبيق على النفس أولا ثم إرشاد الناس لذلك.

المسيحية قبل الإسلام انتشرت بالتبشير وشريعة المحبة، وذلك لاحتياج الناس في زمن استبداد الإمبراطوريات القديمة إلى من يخاطبهم بالرحمة واللين والعدل والمساواة، وانتشر الإسلام في شرق آسيا وأفريقيا بفضل أخلاقيات التجار من عوام المسلمين وأمانتهم، وهم أغلبية المسلمين حاليا، فالخير والحق والعدل توجد أينما وجد التعايش السلمي بين الناس، أما فرض قيم الإكراه والتسلط والكذب لا يلبث أن تنفك وتزول بزوال السبب.

للأسف واقعنا العربي محزن ونحن نقبع في مؤخرة الحضارة، وتركنا رسالة التعمير والنفع لغيرنا، لأننا نملك مئات الآلاف من رجال الدين والوعاظ، ولا نملك عالما واحدا في العلوم الطبيعية إلا طيورنا المهاجرة، وليس لنا أي مساهمة حقيقية لنفع البشرية في أي مجال، لأننا ترعرعنا على إحياء الثارات القديمة، والتحريض ضد المخالف، والتمييز ضد المرأة، فتركنا مهمة النفع لأمم أخرى أكثر جدية وحداثة وعقلانية.

الحق ثقيل ومر إلا على من يريده ويصرح به، ورجال الدين الذين دائما يتشدقون بسنة النبي لماذا لا يذكرون الناس بسنن الرحمة والتعايش السلمي للنبي مع زوجته وجاريته مارية القبطية، التي لم يكرهها على الإسلام ودخلت بإرادتها، وأين هم من ترك وفد نصارى نجران يصلون صلاتهم في مسجده، ومجادلته لهم بالحسنى؟ وأين سنته في عفوه عن مشركي مكة بعد الفتح؟ وأين هم من معاملته مع عمه “أبوطالب” ومواقفه معه؟ وأين هم من تعايش نبي الله نوح مع ابنه وزوجته الكافرين حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا؟ لماذا الدعاء على المنابر بالرحمة والشفاء لمرضى المسلمين فقط دون غيرهم، مع أن الله يقول لرسوله الكريم “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، والأمثلة لا حصر لها ولا يسعنا المقال لذكرها، ولكن اجتزاء القيم والمبادئ وتكييفها على العقل المتطرف هو من الأباطيل والإفساد، وإن الله لا يصلح عمل المفسدين.

علينا أن نراجع أنفسنا ونتصالح معها ونتعايش مع الآخرين، فالإسلام والإنسانية جوهر واحد، والحكم غدا لله يفصل فيه بما يشاء سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا، إن أكرمهم عند الخالق أتقاهم وأنفعهم وأكثرهم تسامحًا.