رأي ومقالات

وقفات مع أحداث جامعة الخرطوم .. صديق البادي


إن موضوع جامعة الخرطوم الذي طرح بطريقة فيها إثارة وتخبط في التصريحات وتداخل في الاختصاصات والصلاحيات، أثار ردود فعل غاضبة عديدة في كل الأوساط وطغى إعلامياًِ على موضوع الاستفتاء الإداري في دارفور أثناء الأيام التي أدلى فيها المواطنون هناك بأصواتهم وانحازوا بأغلبية ساحقة لخيار الولايات، وأضحى الموضوع الأول المتعلق بإدارة الجامعة في بؤرة الشعور كما يقول علماء النفس واضحى الموضوع الثاني المتعلق بالاستفتاء الإداري في دارفور على أهميته في هامش الشعور ولنا أن نتساءل هل تزامن الحدثان بتدبير مسبق أم أن هذا جاء محض صدفة؟ وجامعة الخرطوم تتمتع بسمعة طيبة ومكانة سامية سامقة وتقدير واحترام خاص وسط كل فئات الشعب. وبذرتها الأولى كانت عند إنشاء كلية غردون التذكارية في بدايات القرن العشرين المنصرم. وكان التدرج في التعليم يتم عبر ثلاث مراحل دراسية هي الأولية والوسطى ويلي ذلك التحاق الصفوة الناجحين بكلية غردون التذكارية وهي مدرسة ثانوية، وكانت الدراسة في السنتين الأولى والثانية عامة وفي السنتين الثالثة والرابعة يتم التخصص فى احد الفروع التالية. الهندسة أو المحاسبة أو الترجمة أو إعداد المعلمين… الخ. وهناك قسم للشريعة الإسلامية كان الطلبة يلتحقون به منذ عامهم الأول بعد إكمال المدرسة الوسطى، ومن بين خريجيه على سبيل المثال مولانا مدثر البوشي ومولانا الشيخ علي عبد الرحمن الأمين. وفي مرحلة لاحقة أقيمت المدارس العليا التي كان يلتحق بها من يتم اختيارهم من الطلاب الناجحين الذين أكملوا دراستهم الثانوية بكلية غردون، وعلى سبيل المثال فقد التحق بالمدارس العليا قسم الآداب في عام 1940م من الطلاب النابهين الذين أضحوا فيما بعد من النجوم الساطعة في عوالم الفكر والإبداع والآداب وهم عبد الله الطيب واحمد الطيب احمد وعبد الرحيم الأمين المعلم وصلاح الدين المليك وجمال محمد أحمد وبشير محمد سعيد وأبو القاسم بدري …الخ» وأمضوا عامين دراسيين وبعد تخرجهم عملوا معلمين بالمدارس الوسطى وتم تصعيد بعضهم للعمل معلمين بالمدارس الثانوية ومنهم من نال دراسات اعلى وحصلوا على درجة البكالريوس وما فوقها من جامعة لندن وغيرها. وأكمل البعض ثلاثة أعوام بالمدارس العليا في بعض التخصصات ودرسوا الإدارة وغيرها. وقبل ذلك بسنوات أنشئت مدرسة كتشنر الطبية التي تخرج فيها عدد مقدر من أبكار الأطباء فى السودان. وبعد ذلك أُنشئت مدرسة الحقوق التي كان بعض طلبتها يعملون موظفين وتم انتدابهم من مصالحهم الحكومية وانخرطوا لدراسة القانون ومن هؤلاء على سبيل المثال الأستاذ محمد احمد محجوب الذي أُنتدب للدراسة فيها من مصلحة الأشغال التي كان يعمل مهندساً فيها، ومنهم الأستاذ احمد خير الذي كان يعمل مترجماً بمديرية النيل الأزرق وأُنتدب لدراسة القانون ومنهم الأستاذ بابكر عوض الله الذي أُنتدب من القضائية التي كان يعمل فيها موظفاً لدراسة القانون والأستاذ مبارك زروق الذي أنتدب ايضاً للدراسة و كان يعمل موظفاً بالسكة الحديد و… الخ. وبجانب ذلك تضمنت المدارس العليا دراسة الزراعة والبيطرة وغيرهما. وانضوت كل تلك المدارس العليا تحت مظلة كلية الخرطوم الجامعية. وفى عام 1956م حملت اسم جامعة الخرطوم. وكانت كلية الآداب تضم قسماً للاقتصاد استقل بعد ذلك وأضحى كلية قائمة بذاتها للاقتصاد والدراسات الاجتماعية، وبعثت الجامعة أعداداً هائلة من منسوبيها عبر سنوات طويلة ونالوا أرفع الدرجات العلمية في شتى التخصصات من أرفع الجامعات العالمية. وأقامت الجامعة كلية للدراسات العليا وعددا من المعاهد والمراكز الأكاديمية الهامة للتخصص في الدراسات العليا. وجامعة الخرطوم فيها المجمع الكبير في «السنتر» مع امتداداتها المعروفة في شمبات حيث توجد كليتا الزراعة والبيطرة. وهنالك مجمع كليات الطب والصيدلة بالخرطوم وامتداداتها في سوبا وان مقر كلية التربية بأم درمان….الخ. وأول من حصل على شهادة الدكتوراه في السودان هو البروفيسور مكي شبيكه الذي تدرج في العمل الاكاديمي والإداري بجامعة الخرطوم حتى أضحى عميداً لكلية الآداب، ونائباً لمدير الجامعة وعند سودنة وظيفة مدير الجامعة تم اختيار مدير وزارة المعارف الأستاذ نصر الحاج علي وعين أول مدير سوداني للجامعة في عام 1958م واستغال زميله في الدراسة وفي الفصل البروفيسور مكي شبيكة الذي كان أول الدفعة عند تخرجهما سوياً من جامعة بيروت الأمريكية وتفرغ للعمل مزارعاً بـ «42 القرشي»، حيث كان يمتلك عدة حواشات وطلمبة وقود. وعاد للعمل بالجامعة مرة أخرى في عام 1962م «بعد تعيين بروفيسور النذير دفع الله الياس امبرير مديراً للجامعة». وعمل بعد ذلك عميداً لكلية الآداب خلفاً لعميدها بروفيسور عبد الله الطيب الذي أُنتدب آنذاك للعمل بنيجيريا.وجامعة الخرطوم حافلة بالأمجاد الأكاديمية والبحوث العلمية الرصينة وقدمت للوطن خيرة خريجيها الذين ساهموا في بناء السودان الحديث وقدموا عصارة علمهم وخبراتهم في الداخل والخارج وتركوا بصماتهم في المؤسسات الدولية والإقليمية. وإن فضل الجامعة مشكور غير منكور ولها نشاطها المجتمعي المشهود ومنها انطلقت شرارة ثور أكتوبر عام 1964م. وما حدث مؤخراً من هرج ومرج كاد يؤدي لفتنة يقود لسؤال عن كيفية اتخاذ بعض القرارات، ولسؤال آخر عن كيفية ترك الحبل على الغارب والسماح لهذه الفوضى للإدلاء بتصريحات عشوائية. وقد أدان البروفيسور الأمين دفع الله رئيس مجلس إدارة الجامعة هذا السلوك. واقتطف من بيانه الذي أصدره بعد انعقاد مجلس الجامعة هذه الكلمات بنصها «وقد خصص الاجتماع للتفاكر حول تطورات الأحداث والإضرابات الأخيرة بالجامعة على إثر التصريح غير الموفق الذي كاد يؤدي الى نسف استقرار الجامعة وسير العملية التعليمية»…. وقد نفى مجلس الوزراء ونفت وزيرة التعليم العالي والبحث العلمي البروفيسور سمية أبوكشوة كل ما جاء بذلك التصريح العشوائي غير المنضبط ونفت أي اتجاه لترحيل الجامعة أو بيعها.

الانتباهة