مقالات متنوعة

عبد الله الشيخ : (إنْتُو مُنو، ودَايرِينْ شُنو)..؟


ثمّ أنّ المُجاهِد عِتْمان في زيارته إلى الحِلّة (إتْجَدّعْ فِينَا جِنِسْ تِجِدِّعْ)…! سَلَخَ لحبّوبة هُولة، ورقة سَنينة مُوس.. فض ختم بنكها.. دُقشة من الورق السمين، رفيع المقام.. سمعنا طرقعتها.. إنّها ربْطة بنكنوت، من المَطبعة، مُباشرة، إلى يديه الناعستين الناعمتين.. الشريفتين العفيفتين..!
ثمّ قرّرَ عِتْمان أن يزور المدرسة.. كانت مرتع صِبانا، وكان فيها دِلاهة الفصل.. أذكره الآن بِـ ( رِيَالَاتو وخُرتَايتو).. الآن، هو(النّابغة الذُبياني)، في الحزب الفلاني..!
قررَ زيارة المدرسة، ولا بد أن أزورها معه، وأقف في زاوية تسمح لي برؤية النسائم تهفهف السكروتة، وتعدو بعطر اسمه بروت..!
كان ذلك العطر موضةً لأعيان ذلك الزمان، وكنت حينها (عاطِل بَابِكِر)..!
تبرّع عِتْمان في الطّابور ببناء مسجد داخِل المدرسة.. قلت له من فوق كُسّار الطوب الذي (أرتكز) عليه: هذه مدرسة (وانج)..! وانج معناها بالرُّطانة (سَهَلة بدون حوش)…
رمقني بنظرة خاطفة..!
خِلتُ نفسي في تلك اللّحظة، قد(عَفصْتَ) مباشرةً، على أزرار عملية التغيير المُبتَغى.
لكن على ما يبدو أنّ عِتْمان، قد تعلّم الكثير.. يبدو أنّه قد أخذ هناك دورة متقدمة… لم يرُد عليّ، بل زجرني صمتاً، وواصل دراريبه قائِلاً : نحن دايرين النُشء- قالها بضم النون..!ـــ (دايرين النشء يتعلم أمور الدين).. وأكمل بقية الرواية… وأنا من فوق تل كُسّار الطُّوب أقول له: المدرسة دي دايره طباشير..المدرسة عاوزة كتاب ولو يشتركوا فيه ثلاثة أو أربعة طلّاب.. المدرسة دي دايره مُعلِّمين..!
وليتني لم أقل العبارة الأخيرة .. فقد صفعَنِي بسؤالٍ جَلَبَ عليّ الحوقلات والتعوُّذات، من حلوق الأهل والأحباب..!
و يا للمُفاجأة.. قد صار عِتْمان يعرف، كيف يركب جُملاً مفيدة..
قال لي: إنْتُو مُنو، ودَايرِينْ شُنو..؟
ثم أكمل بقية الرواية التي فيها تبعيضاً للمرجفين في المدينة…
وبعد كل احتفال في الحلة لابد من كرامة..إن لم أذهب إليها، سيقولون أنني هربت من المواجهة… في خشم الباب، ومن بين فرجات الحجازين قلت له: وطيب.. طيب، المدرسة دي ليه ما تقلبها خلوة وترتاح..!
وزادت الحوقلات عليَّ، حتى أنّ عمّك حاج حسين، قال موجّهاً حديثه لي: إنت جِيتْ يا المنْعُولْ..؟
كنت فاكهة الكرامة في ذلك اليوم… قالت حبوبة هولة التي انتزعت جندرتها لوحدها، وجلست في الديوان لتناقش مستقبلي الاجتماعي والسياسي مع الرجال.. قالت وهي تعصر على الورقة السنينة التي دسّتها في جيبها: أكان داير يسافر، أنا بقطع ليهو التذكرة.. قال عمّك الكبير: يسافر كيف..؟ الخرطوم فيها الكشة.. خلوهو قاعد في الهمبريب ده..!
شكرته فيما بعد، لأن شفقته عليّ تغلبت على مكنته الخفيفة، بعد استجابتها السريعة لدراريب الطابور…أحدهم، ولا داعي لذكر الاسم، اقترح على عِتْمان، أن أركب معه الفارهة.. وآخر قال له: يا عِتْمان يا ولدي.. ما تشوف ليهو شغلانه معاكم.. الزول دا شيلو معاك أجدعو في أي مكتب في الخرطوم..!
ثم إن عِتْمان كان متصدراً للمجلس، وفي وضعية إلتفاف، لا تجدي معها أن (أجُرْ فيهو النور الطويل)… لقد تمكّن من استمالة القوم إلا قليلاً…
قال في ثنايا المفاوضات التي أجروها معه- مِن أجلي- قال ما معناه إنه (سيساعدني)..!
وبما أنّي أعرف عِتْمان، وأعرف نوع مساعداته التي يمكن أن يقدمها لي، فقد ذهبت إلى سوق الأحد بعد ساعة من تفحيطه إلى العاصمة المُثلّجة.. بِعت الدّحَشة، ووضعت القريشات في جيبي ، ومرَقتً من الحِلّة.. (المَرْقه اليَاها)..
في حمرة الشيخ، حيث الرواكيب التي يأوى إليها القادمون من الصحراء الكبرى، رآني مُساعِد من أولاد الحِلّة..قال لي:(تمام يا فردة.. بعد ما خَفسْتَ من البلد، جاء كومر الحكومة يَكشِّفْ ليك، لِقوكْ عملتَ زُغبير..( أضاف(: إنتو كِدة ياااخ.. أنا عارفكم ما بْتِنْقَبْضوا بالسّاهِل…
سألته نِحنَ مُنو..؟
ضحِك، وكان لضحكته معانٍ لا تحتاج الى تمحيص..
نواصل..