حيدر المكاشفي

سكران وشيوعي وحلايب مصرية كمان


النشوة والسعادة التي قابل بها السفير السعودي بمصر توقيع الاتفاقية السعودية المصرية، التي كان أحد مكتسباتها عودة جزيرتي صنافير والتيران للحضن السعودي لدرجة جعلته يقول بمصرية حلايب، شابهت عندي نشوة صاحبنا السوداني المحب والمعاقر للخندريس، قيل في الطرفة أن صاحبنا هذا الذي عانى كثيراً على أيام تطبيق الشريعة أو إن شئت قوانين سبتمبر من كثرة الجلد الذي أدمى ظهره بسبب المريسة، سارع مع الساعات الأولى لنجاح الانتفاضة إلى خمارة شعبية يعرفها، بظن أن طيران نميري لابد أن يطير معه شريعته أيضاً، وعبأ من بنت الحان ما وسعته كرشه حتى (وقف لط)، وبعد أن كرع آخر كأس خرج من الخمارة يجرجر رجليه و(يتترتع ويخيط الشارع كما تفعل الإبرة في الخرقة) قاصداً أقرب نقطة بوليس، وعندما بلغها وقف أمام الشرطي وقال له بدون أي مناسبة (سجل عندك أنا سكران وشيوعي وحلايب مصرية كمان)، ولكن حتى لا نظلم السفير السعودي فربما وقع الرجل ضحية لمعلومة مغلوطة قيلت له في شأن حلايب، والمعلومة المغلوطة والمضللة تقول إن الحدود بين مصر والسودان حددتها اتفاقية (1899) عند خط عرض (22)، وتبعاً لهذه الاتفاقية يقع مثلث حلايب داخل الحدود المصرية، ولكن في عام (1902) قامت المملكة المتحدة والتي كانت تحكم البلدين وقتها بجعل مثلث حلايب (تابع) إدارياً للإدارة السودانية؛ لأن المثلث أقرب للخرطوم منه للقاهرة، ولعل تصريح سفير السعودية الذي قال فيه بالحرف (حلايب مصرية تحت الإدارة السودانية)، يكشف وقوعه تحت تأثير المعلومة المضللة التي أوردناها واستدراكه عليها بقوله (إذا لم أكن مخطئاً)…
إن وضع حلايب الآن لم يعد يحتمل السكوت، فكلما صمتنا وطال صمتنا، وجدنا أن الجانب الآخر قد تطاول في مشروعاته التمصيرية، وكلما سألنا لماذا يحدث هذا أجابونا ببناء طابق آخر، وهكذا إلى أن وصل الوضع في مثلث حلايب – شلاتين- أبو رماد حداً لا يحتمل الميوعة ومسك العصا من منتصفها، فإما اعتراف كامل بمصرية حلايب فنصمت إلى الأبد، أو تأكيد جازم على سودانيتها، أما حكاية أنها ستصبح منطقة تكامل وتعاون وليست محل تنازع وتقاضٍ، وأن تسمى حبايب بدلاً من حلايب إلى آخر هذا الكلام المعسول الذي ظل لعشرات السنين مجرد عبارات ملفوظة، أو تصريحات مكتوبة، كل هذه الحكاوي ليست سوى حدوتة من الحواديت التي تحولها السينما المصرية إلى أفلام والتلفزيون إلى مسلسلات لتزجية الفراغ، فقد ظلت كل الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر منذ فترة ما قبل السادات وإلى زمان السيسي هذا، تنتهج حيال حلايب سياسة واحدة وهي تعميرها وتمصيرها بالكامل، وقد مضت في ذلك أشواطاً بعيدة، بينما ما زالت حكومتنا تتلكأ وتلوك حكاية التكامل والتعاون، تتمتم بها على استحياء ولا حياة لمن تنادي.