منى سلمان

أبو القدح السوداني


يعيب البعض على السودانيين، جفاف عواطفهم
واحجامهم عن التعبير عنها ان وجدت، حتى قال بعضهم أن أقصى ما يمكن أن يبوح به
الرجل السوداني لزوجته من كلام الحب: عليك الله سوي لي فنجان من جبنتك المظبوطة ديك !!

وينسى هؤلاء أن السودانيين شعب عاطفي ودود،
ولكن تجري في عروقه دماء حارة، تعوق التعبير عن تلك المشاعر .. ربما لقناعتهم بأن
الحب مكانه القلب وهو كالإيمان أصدقه (ما وغر في القلب وصدقه العمل) .. أن تعمل
على راحة محبوبك وتأمين سعادته، خير من ان تسمعه مواويل الغرام ..

* كانت (زينب) متكئة
على جانبها الايمن ترضع وليدها الذي شرّف الديار بمقدمه حديثا، بينما تبث شكواها
من شعور بالسقم والغثيان لازمها منذ وضوعها قبل ايام، لـ (مناهل) ابنة جارتها
الحاجة (أمونة)، التي حضرت مبكرة لمصابحة النفساء، وتقديم يد المعاونة لها في
رعاية الصغار، عندما رفعت الصبية رأسها فرأت (خير الله) زوج (زينب) يعبر راكوبة
المطبخ في الجهة المواجهة للغرفة من الحوش .. تلجلجت في حياء وقالت لمضيفتها:

راجلك واقف بره .. بقعد ليكم في الراكوبة
يمكن يكون دايرك في كلام.

مع تحرك (خير الله) مغادرا المكان، نهتها
(زينب) بحركة يدها عن الخروج وهي تقول:

لالا .. ما دايرلو شيء .. بس قال لي خلاص مارق.

تعجبت (مناهل) من رد جارتها، وكيف علمت ما
يريده زوجها بمجرد التقاء اعينهما من بعيد، وبشيء من حب الاستطلاع زاده فضول
المراهقة سألتها:

قال ليك كيف ؟ هسي راجلك ده يادابو مدّا راسو
بالراكوبة ورجع .. عرفتي كيف الداير يقولوا ؟

اجابتها (زينب) ببساطة بريئة: من الصباح
كلمني قال بدّلا الجنينة بعد الفطور .. وكتين جاء عاين لي من بعيد يعني معناتو بدور
يقول لي خلاس مشيت.

ظلت (مناهل) تلاحق (زينب) بأسئلتها الفضولية،
وكأنها تريد أن تستقصي عن طبيعة العلاقة، بين (زينب) حمامة القرية الوادعة الطيبة،
وزوجها (خير الله) صنديد القرية الذي تهابه فيها حتى قلوب الرجال، وتتجنب نساءها
وصبياتها الطريق الذي يعبر من خلاله، فبالاضافة لملامح وجهه الصارمة وشاربه الكث،
اضاف صوته الجهوري بعدا آخر لهيبة زعامة ورثها من والده كبير القرية بصفته أكبر
الابناء ..

لم يكن اختيار (زينب) ذات الاربعة عشر ربيعا
عروسا لـ (خير الله) محض صدفة ولا اختيار أمهات، فقد تابع قلبه (تبتها) وسط
قريناتها من صغيرات القرية، وكم اسرته بوداعتها وهدوءها وسمتها الرزين، لذلك لم
يلقى اختياره لها سوى الترحيب من الجميع، ولم يسمع صوت اعتراض إلا بعض همهمات عدم
الرضا من المرحومة والدة (زينب)، وذلك لاعتقادها بأنه (راجل ناشف وكلامو قوي) وسوف
يشقي صغيرتها الوادعة بجفافه وقسوته .. ولكن

طوال سنوات ارتباطهما بالزواج، وحتى انجابها
لوليدها السابع قبل أيام، لم تشكو (زينب) من زوجها لأحد، فقد نجحت في مسايرته
ومسايسة طبعه وتعايشت مع كلامه القليل، بل تعوّدت أن تفهم مراده من نظرة عينيه،
وكلما داعبتها جاراتها بـ (راجلك الصعب ده بتتفاهمي معاهو كيف ؟) دافعت عنه بأنه
مثل (أبو القدح) .. جاف وصلب من الخارج، رقيق سهل العطب من الداخل ..

قبيل العصر، عاد (خير الله) للبيت مسرعا مع
المرسال، الذي ذهب إليه يخبره عن توعك (زينب) واصابتها بالحمى، هاله أن وجدها تهذي
في غيبوبة الحمى، فأسرع باستئجار عربة بوكس وانطلقوا بها نحو مستشفى المدينة
المجاورة، وهناك تم ادخالها لوحدة العناية الفائقة ومنعت عنها الزيارة لخطورة
حالتها ..

مرت سبعة أيام بلياليها الطويلة، قضاها (خير
الله) في خوف وانتظار مترقب لانجلاء غمة المرض عن زوجته، لم يتمكن خلالها من
الدخول والاطمئنان عليها سوى في تلك اللحظات التي تسمح له الممرضات باختلاس النظر
عبر الباب لمرقدها من بعيد، حتى جاء الفرج عندما بشّره الطبيب، وطلب منه الاسراع
باحضار سرير النقالة لحمل زوجته وتحويلها لعنبر الحريمات لاستكمال علاجها بعد زوال
الخطر ..

أسرع باحضار النقّالة وبصحبته بعض اقاربهم من
اشقاء (زينب) واشقائه وبني عمومتهم، ولكن الممرضة سمحت له بالدخول وحده .. تقدم
نحو فراشها مترددا وقد عصفت به مشاعر فرح خالطه الاشفاق والحنان، عندما رأى وجهها
الزابل وعينيها المنطفئتين .. تقدم منها في صمت ومد يده الضخمة المشققة بفعل
الطورية والجفاف .. وضعها على كفها وضغط عليه وهو يتمتم وقد خنقته العبرات (حمد
للا بالسلامة .. حمد للا بالسلامة)، فردت عليه بصوت واهن (تسلم ) ..

لحظات سرى بينهما فيها تيار من الحميمية
والمودة، سرعان ما انقطع بصوت آمر يطلب منه (هااا أرفع معاي بهناك .. ايوا شيل
بالملاية)، عاد لارض الواقع وانحنى يحمل جسد زوجته النحيل على النقالة وقد عادت لوجهه
ملامحه الصارمة من جديد !!
(أرشيف الكاتبة)