رأي ومقالات

الترابي.. حياة الأفكار (5)


ولد الترابي وعاش في عصر ضعف و إستضعاف الأمة الإسلامية بعد أن كانت ولقرون تعد على الأصابع هي الأمة الغالبة. وقد آمن الترابي أن ما وقع على الامة من عدوان وإستضعاف هو نتاج كسب اياديها بعد أن تراجعت الفكرة وخارت الهمة ،وانحلت الروابط . وسبب ذلك كله عند الدكتور الترابي هو التباعد عن الفكرة المركزية فكرة التوحيد. فالتوحيد هو استجاشة فكر الإنسان ليكون في حالة نشاط فكري مستمر وذلك هو الاجتهاد . والتوحيد هو استجاشة إرادة الإنسان ليكون في حالة وعي مستمر يحفز مشيئته على الاستقامة على الفكرة . ومجابهة الركون للكسل المستعاذ منه ،وللدعة والترف والسرف ،وتلكم هي المجاهدة. والتوحيد هو استجاشة همة النفس لتتوحد النفوس جميعاً على همة واحدة هي الدعوة للإرتقاء بالأنفس والجماعات إلى مقام الإنسانية القائدة والشاهدة على الأمم و ذلكم هو الجهاد.
الفقه هو الفهم :
والفقه لدى الترابي هو الفهم . وأول ذلك فهم الإنسان لما هو عليه من حال وأوضاع متغيرة ومتحولة ومتبدلة ،لأن النظر في الحال هو إبتدأ الأمر. وهو الوعي الذي هو مقابل الغيبة والغيبوبة . وهو المعاش مقابل السبات وهو الصحوة مقابل الغفوة . فغير العاقل ما هو بمكلف بشيء من تكاليف الدنيا أو الآخرة. فلحظة الوعي هي مبتدأ لحظة التكليف. لذلك فإن الوعي الفكري للإنسان هو الهداية الأولى وقد أوكل الإنسان الأول إليه عندما أنزل إلى الأرض. “قلنا أهبطوا منها جميعاً فاما يأتينكم منى هدى ممن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” فقد أنزل الإنسان ليهتدي بفطرته وبعقله . ووكل إليهما حتى إذا خذلته الفطرة وخذله العقل وأجاءاه إلى سبيل الضلال ،جاءه الهدى المتنزل وحياً من السماء ليعيده إلى السبيل القويم والصراط المستقيم . ولا يزال الإنسان موكلُ إلى عقله وفطرته ليدرك ماهية الحال التي هو عليها . ومن ثم ينظر في هدى السماء المتنزل عليه لا كتاباً يقُرأ فحسب بل قدوة انسانية عملية متمثلة في الرسول المرسل صلى الله عليه وسلم . فالرسول ليس محض حامل رسالة فحسب بل هو شاهد وشهيد . هو شاهد على إن معرفة مراد الله وحياً وكسباً بالامكان . وهو شهيد على ان الاستقامة على مراد الله الذي يهدي إليه الوحي والعقل بالامكان . وأن الجهاد ليكون مراد الله هو الكلمة العليا الحاكمة بين الناس هو ايضاً بالامكان. لذلك فان الفقه هو الفهم للحال وما يناسبه من هداية متنزلة متمثلة في الكتاب المنير، أو هي هداية تُهدى إليه من معرفة حال السراج المنير محمد صلى الله عليه وسلم المتبدية في سمته وحاله وسيرته وسنته.
ولئن كان الأمر كذلك فلا عجب أن عصر الركود الفكري الفقهي كان منزلقاً للانحدار الحضاري والتخلف الإنساني. ذلكم الذي آض بالأمة إلى ما هي عليه من استضعاف واستتباع. فالضعيف تابعٌ ولا غرو والقوى متبوع يلا شك . وبذلك يفسر دكتور الترابي ظاهرتا الاستباع والاستعمار التين خضع لهما العالم الإسلامي . وهو يدرك أن تغيير الحال لا يكون إلا بتغيير الباطن. ما يعنى تغيير طرائق التفكير لإعادة الأنفس من غفوتها إلى صحوتها ،ومن ضلالها إلى وعيها المتجدد المتعاظم. ولن يتحقق ذلك إلا بالفكرة المركزية القرآنية التوحيدية . وأقرأ ان شئت خطابه سبحانه إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم “إلم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى” أي وجدك في حال الضعف والاستضعاف فآواك وجعل لك ملجُاً ومعاذاً . ووجدك في حال حيرة العقل وضباب الوجهة والقبلة فهداك إلى مقاصدك . ووجدك قليل الحيلة لا تغني نفسك عن نفسك شيئاً فأغناك عن من سواك . وهذا هو حال الأمة اليوم ضعيفة مستضعفة وملجأها ومعاذها في القرآن . وحائرة ضالة وهداها في القرآن. وقليلة الحيلة واهنة القوى وقوتها وبأسها من القرآن. والقرآن هو كتاب التوحيد، توحيد العابد والمعبود . فالأمة العابدة أمة واحدة بما تقرأ من الكتاب وما تدرس . ومصدرها للهداية رب واحد وكتاب واحد ودين واحد لا تفرقه المذاهب ولا تتشعب به الآراء والمقاصد.
توحيد النفس العابدة:
والتوحيد يبدأ بتوحيد النفس العابدة لتكون نفساً عازمة ومريدة للحق ومستقيمة عليه وداعية إليه. يقول الترابى “والأصل في الدين ان يكون موحداً للظاهر والباطن، بل الباطن هو جوهر التدين والظاهر صورة التعبير عنه” ولكن الوضع البشري كثيراً ما يجنح نحو تغليب الظاهر وأعلاء الطقوس والنظام الشكلي الفارغ . وهي ظاهرة تصيب العقائد والشرائع الوضعية والسماوية على حدٍ سواء . فتتوارد على اطوار تاريخها دورات التقلب والشكلية ،ثم تتهيأ مراحل وعي واحياء للمعاني بالتعويل على النوايا الحسنة وتوخي المقاصد وتحقيق وظائف التوجيهات الدينية في الضبط النفسي والإجتماعي. والظاهرية هي الموت السريري للتدين . ذلك أن مظاهر الحياة تظل موجودة والمفقود هو حيوية الحياة نفسها. الظاهرية هي إعطاء الاعتبار للمباني دون المعاني والاعتبار بالالفاظ والقوالب الشكلية دون ¬¬النوايا التعبدية والمقاصد المرعية . وشيوع الفقه الظاهري المضيع للنظر في الأحوال المهدر للمقاصد الشرعية القليل العناية برفع الأمر والحرج عن الناس هو العلة الأولى. وأما الداء المقابل لهذا الداء فهو الباطنية السلبية التي لا تنظر إلى الأحوال الظاهرة ولا إلى المشكلات التي تعم بها البلوى بين الناس . بل تنصرف إلى تأملات ذاتية ومكابدات باطنية تنأى بها ان تكون ذات هداية للناس أو عناية بأمرهم . والظاهرية تقود إلى جمود العقل والتبعية للاسلاف بغير نظر في الأحوال المتغيرة المتحولة . والباطنية تقود إلى خمود الإرادة وبرود الهمة عن تغيير احوال الناس وتحسينها . والانصراف عن ذلك إلى التربية الذاتية الخصوصية التي لا تجد لها معيناً من المجتمع ،فمن لا يعين لا يُعان فتنزلق هي الأخرى إلى مزالق الناجي من جرفها الهار قليل . ان النهضة لدى دكتور الترابي تبدأ بالتوحيد ، توحيد ظاهر الإنسان وباطنه فالاشكال والطقوس والشعائر لابد لها أن ترتبط بالمعاني والمقاصد . ومراعاة النيات العابدة لابد لها أن تتصل بمشيئة عاملة ناصبة لتكون حياة الناس أمثل وأفضل ، ويلاحظ الدكتور الترابي انقسام الأمة إلى فئتين عظيمتين إحدآهما تُعني بالظاهر فتقلد السلف بلا بصيرة واعية . ويصبح ولاؤها للاسلاف لا للأفكار . وتعصبها للاشخاص والأئمة لا تمسكاً بالحقائق وتعرفاً على الوقائع ،يستوى في ذلك من يتسمى سلفياً أو شيعياً . والفئة الثانية هي فئة باطنية تقلد أئمة التصوف بلا وعي ولا بصيرة وتنصرف عن نوازل الزمان وأحوال الناس . وكأنما التدين مطلوب لأجل ذاته لا ثمراته في النفس والمجتمع.
ويستخدم دكتور الترابي أنموذج الشعائر ليعرض من خلاله كيفية توحيد ظاهر النشاط الانساني وباطنه . فيقدم أنموذج الصلاة مرآة لهذا المعنى . فالصلاة عماد الدين من أقامها أقام الدين ومن هدمها فقد هدم الدين . فلماذا هذا المقام الرفيع للصلاة؟؟ ويجيب لأنها بيان بالمطلوب من العبادة كل العبادة ، فجوهر العبادة إبقان معرفي وتسليم لله بالعلم والقدرة . ولئن كان الدعاء هو مخ العبادة فانما الصلاة هي الدعاء ولكنها دعاء مخصوص . فهو ليس محض كلام ولا هو محض حركات وطقوس ولا معاني ومواجد تجيش بها النفس، بل هي كل ذلك معاً . هي توجه وإستعانة في آن واحد . وهي سكون الاعضاء وجيشان الوجدان . والصلاة تعلمنا كيف تتجانس حركة الجوارج رأساً وأيادي وأقدام . وكيف تقوم وكيف تتوجه إلى قبلة واحدة وتستقر على سبعة لوجة واحدة. والصلاة الحقة هي تدير وتذكر . وهي اتصال وما هي بالانقطاع . هي صلة بالله وصلة بالجماعة المرصوصة صفاً واحداً . وثمرة الصلاة الحقة هي وعي بما تنكره النفس الصادقة الصافية وابتعاد عن كل فعل فاحش مجانب للفكرة الطاهرة . وثمرتها تماهي الفرد في الجماعة وانقياد الجماعة للقيادة بوعي وبصيرة. وسائر الشعائر كذلك فالصيام للفحشاء وجاء ،وللأثرة دواء ومن القسوة شفاء . والزكاة تزكية للنفس من شحها وللمال من خبثه وللمجتمع من مظالمه . والحج شفاء للحاج من عُجب ومن كبر . وتذكير له بالقبلة الواحدة والأمة الواحدة والرحلة القاصدة. ودكتور الترابي يمضي في شرح ذلك وتفصيله فيما كتب عن الشعائر وعن الصلاة التي هي عماد الدين . فالشعائر هي رآيات الدين المشرعة وألويته المرفوعة . وهي التذكير المستمر بمعاني الشرائع التي ما شرعت إلا لتوحيد العابدين بنفي الظلم والتظالم . وتحقيق المودة والإخاء فالمؤمنون أخوة . وهم وإن كانوا اشخاصاً متعددون فهم في تواصلهم وتوادهم جسدٌ واحد إذا أشتكي بعضُه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
نواصل ،،،

د. أمين حسن عمر