سعد الدين إبراهيم

سينما في المسجد..!


قبل عدة أشهر طلب إليّ إمام وخطيب مسجد حارتنا فضيلة الشيخ “الصادق قسم الكريم الطيب” أن أقدم محاضرة عن الإعلام وأثره على المجتمع، فألحّ عليّ رغم اعتذاري (المغلظ) بأنني ربما (لا أنفع) في هذا الأمر، خاصة وأن الحديث في مساجد الله مهابة ورهبة.. وقلت له إنني لست من أصحاب المنابر الخطابية، لكنه هزمني بمنطقه عندما قال إن الأمر لن يكون منبر خطابة، بل هو حلقة تدارس تبدأ عقب صلاة المغرب، وتنتهي باقتراب موعد صلاة العشاء.
إذن لا مفر.. توكلت على الحي الذي لا يموت، وما كنت وقتها أحسب أن يكون الحضور كبيراً، ولكنه كان، فقد توزعت الإعلانات في أنحاء الحي، ووجدت أنني محاط بجيراني وأصدقائي في الحي، وقلت لهم إنه من الأفضل أن يدلي كل منا برأيه حول الموضوع لأن للإعلام أثراً وتأثيراً كبيرين على المجتمعات، ولا بد أن يكون كل منا رأي في ذلك.. وخاصة وأننا نواجه بل العالم كله يواجه السيول الإعلامية المتدفقة من الأرض والفضاء، ولا يستطيع أن يمنع تدفقها أو يحاربها إلا بالمقاطعة من طرف واحد.
طلب إليّ أحد الشيوخ أن أقول ما عندي أولاً، ثم نفتح الباب أمام النقاش، ونجعل بعض أركان القضية قاعدة للنقاش العام، وقال إنه يريد أن نلقي الضوء على المتغيرات الثقافية التي تحدث في مجتمعنا السوداني المحافظ.
قلت للرجل إن ما أشار إليه هو (رأس الخيط) لموضوعنا، لأنه قبل الإعلام الحديث، الناقل المباشر للحدث، مثل الفضائيات وشبكة الانترنت ووكالات الأنباء النشطة، وقبل النهضة الإعلامية الكبرى التي شهدها العقد الأخير من القرن العشرين، لم يكن بمقدور المواطن السوداني الذي يعيش في مناطق الحضر حيث تتوفر خدمات الكهرباء والاتصالات والتعليم وغيرها، لم يكن بمقدوره الإطلاع على ثقافة (الآخر) إلا من خلال وسائل الإعلام المحلية التقليدية، مثل الصحف أو البرامج الإذاعية التي يستمع إليها أو البرامج التلفزيونية التي يشاهدها داخل بلاده، وهذه نافذة لا يكون المشهد من خلالها حراً، إذ إن الحكومات- خاصة في دول العالم الثالث– كثيراً ما تتحكم في ما ينشر أو يبث بحكم ملكيتها لأجهزة الإعلام، قبل ظهور الإعلام الخاص، أو من خلال تحكمها غير المباشر بالقوانين والضوابط التي تضعها ليتم بث ونشر المادة الإعلامية المناسبة.
المواطن الذي نال حظاً من التعليم كان يتعرف على المجتمعات الأخرى من الابتعاث أو السفر إلى الخارج، أو من خلال الكُتب والروايات والصحف والمجلات التي احتلت مكانة رفيعة في نفوس الأجيال السابقة، بحسبانها واحدة من وسائل المعرفة العامة.
أما الذين لم ينالوا حظاً من التعليم خاصة في الدول المتخلفة أو النامية، فما كان لهم أن يتعرفوا على العالم من حولهم إلا من خلال تناقل الروايات الشفاهية (الأسطورية) أو البرامج المسموعة والمرئية، وهذا كله ما كان له أن يحدث التحولات الكبيرة و(المخيفة) في المجتمعات نحو هدم القيم التقليدية لصالح بناء قيم جديدة مثل التي تطرحها (العولمة) في الوقت الحالي، وهي ترفع شعارات حرية الفرد في المعتقد والسلوك، وحرية الرأي والتعبير دون تقييد بأي مفاهيم قديمة، أو موروثة أو بالية.. لكن الانقلاب الحقيقي الذي حدث لصالح تغيير القيم والمفاهيم المحلية كان قد بدأ مبكراً وبطيئاً من خلال السينما بتقديم أفلام مؤثرة تدغدغ الحواس وتخاطب العواطف وتلهب المشاعر عن طريق القصص العاطفية، والأفلام الاجتماعية والبوليسية لترسيخ قيم محددة يتم بذرها في المجتمعات المحافظة، وتحولت بعض العواصم العالمية المهمة لأكبر مراكز إنتاج سينمائي إقليمي أو قاري تتشبه بعاصمة السينما العالمية (هوليوود) الأمريكية، وقد انتبه المحافظون لذلك في المجتمعات العربية والإسلامية وأطلق البعض عليها اسم (السوء نما) وحاولوا إيقاف هذا المد الساحر.. ولكن هيهات.
المرحلة الأكبر والأخطر بدأت مع ظهور البث التلفزيوني الفضائي الذي أخذ يشكل ثقافة شبه موحدة وجديدة في تلك المجتمعات المحافظة، وأدى ذلك إلى نشر مصطلحات جديدة هي أصل ما يسمى بثقافة العولمة، مثل النظام العالمي الجديد، والأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، وحرية المرأة، ومصفوفة الحريات التي لا تنتهي وتعمل على إخراج الشباب عن الإطار التقليدي لقيمهم الاجتماعية.
تحدثنا بعد ذلك عن أدوار القنوات التلفزيونية العالمية في الترويج أو التمهيد لحدث ما، مثل الدور الذي قامت به الـ(سي إن إن) في حرب العراق، مع ظهور قنوات إقليمية لكل منها أجندتها الخاصة التي تعمل من أجلها من خلال خدماتها الإخبارية، أو عبر البرامج الحوارية.. وهذا غير القنوات المتخصصة، إما في المنوعات أو الغناء والرقص أو الأفلام أو الرياضة أو المسلسلات، وهو ما دفع بعض الغيورين إلى إنشاء قنوات دينية خاصة أو حكومية، لكن هذا نفسه واجه تحدياً من نوع آخر، عندما قام آخرون بإنشاء قنوات تبشيرية مسيحية أو شيعية أو طائفية أو صوفية، وأخرى جهوية تبث وتنشر ما يروج لأفكارها وثقافتها إلى أن بدأت المرحلة الأخطر وهي مرحلة الانترنت، أو شبكة المعلومات العالمية ودخول وسائط التواصل الاجتماعي بأثرها وسهولة استخدامها.. ولا نعرف ما الذي سيحمله المستقبل.
امتدت جلستنا تلك حتى موعد صلاة العشاء، وما أشرت إليه لم يكن إلا شذرات مما دار فيها.. وخرجنا بأنه لا يمكن حماية المجتمعات المحلية والوطنية إلا بالتعاضد الأسري والمجتمعي وتعاون كل مؤسسات الدولة لترسيخ قيمها الفاضلة لأن الرفض المجتمعي للعولمة هو أول خطوة في طريق مقاومتها بالتطرف والمواجهة العنيفة.
اللهم احمنا وأهلنا وبلادنا وبلاد المسلمين، وارحمنا واعفُ عنا واغفر لنا يا أرحم الراحمين.. آمين.
و.. جمعة مباركة