مقالات متنوعة

د. عارف عوض الركابي : ظاهرة «تَشَنُّج» و«تَوَتُّر» في الخطاب الدعوي!!


د. عارف عوض الركابي –مظاهر «تشنج» و«توتر» في الخطاب الدعوي لدى بعض الدعاة والمتصدِّرين للدعوة إلى الله لعامة الناس برزت في الفترة الأخيرة.. !! ظاهرة جديدة لم تكن تعرف في التأريخ الدعوي في الخطاب الدعوي العام في المحاضرات والخطب والدروس التي تلقى على عامة المسلمين!! والمؤسف – حقّاً أن هذه الظاهرة باتت تتزايد في الفترة الأخيرة!! إذ البعض يقلد فيها البعض الآخر.. بنفس النبرة!! والطريقة!! والعبارات!! والكلمات!! والأسلوب في مخاطبة من يوجه إليه الكلام، سواء على سبيل الدعوة والتوجيه والإرشاد أم على سبيل النقد!! إنها أساليب جديدة صارت هي السمة الغالبة لبعض الممارسين للدعوة.. بل علامة يعرفون بها.. إذا عرضتها على هدي وطريقة من وجب على كل الناس اتباعه – فضلا عن من ينصبون أنفسهم للدعوة – وهو النبي صلى الله عليه وسلم.. علمت بُعْدَ هذه الظاهرة «المُحْدَثَة» عن هديه عليه الصلاة والسلام فضلاً عما يترتب عليها من المفاسد إذا كانت سمة غالبة في مخاطبة المدعوين.. فكم تحمل دعوةٌ – يغلب على أساليبها عبارات الشتم والاستفزاز للمخاطب والاستخفاف به حتى تصل أحياناً بألفاظها إلى الاستخفاف بخلقة المخاطبين وأشكالهم مع التندّر والضحك عليهم ــ كم تحمل في طياتها دعوةٌ كهذه من التنفير عن دين الله وشريعته!! لقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس على اختلاف أحوالهم إذ كان فيهم الموافق والمخالف وفيهم المقبل والمعرض.. وبينهم المسلم والكافر وغيرهم.. خاطب النبي عليه الصلاة والسلام أهل مكة لما أعلن دعوته وردّوا عليه بسيئ القول، وخاطبهم يوم الحديبية ويوم فتح مكة، وخاطب اليهود والمنافقين وخاطب الصحابة في مناسبات عديدة وخطب الجمعة والعيدين والاستسقاء؛ وغير ذلك؛ مما يبيّن لطالب الحق – هديه في خطابه العام للمسلمين، كما خاطب النبي صلى الله عليه وسلم الأفراد وهديه في ذلك وغيره هو أكمل الهدي وأفضل الهدي وأحسن وخير الهدي، فخاطب من جاء يستفسر عن خطئه وهم كثر – كما في قصة الذي جامع زوجته في نهار رمضان وفي الحديث بيان كيف كان حاله لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكيف رجع!! رغم أنه قد فعل منكراً عظيماً وقال هذا الصحابي للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه: «هلكتُ وأهلكتُ» وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على أن فعله فيه هلاك وهو منكر عظيم، لكن كيف رجع هذا الصحابي بعد ذلك؛ وخاطب النبي صلى الله عليه وسلم من بال في المسجد.. وخاطب من قال لأخيه في الصلاة «يرحمك الله».. وغير ذلك.. وهذه وغيرها نماذج لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لأفراد قد أخطأوا.. فكيف بخطابه للأفراد غير المخطئين؟! فإن هذه الظاهرة التي أردتُ بمقالي هذا التنبيه عليها، يصحب دعاتها حالة من «التوتّر» و«التشنّج» ويصحب ذلك «التوتّر» عبارات غير لائقة وكلمات غير مناسبة بل إطلاقها والتعوّد عليها لهو من المحدثات في الدعوة إلى الله تعالى، ولو كانت تلك «العبارات» التي يصحبها بعض «الحركات» أحياناً مما يصدر بين حين وآخر لما احتاج الأمر إلى تنبيه، لكن كما بيّنتُ في صدر هذا المقال فإنها قد أصبحت هي السمة الغالبة في الخطاب المُوجّه للمدعويين من دعاة هذه «الفِرقة» «النّابتة». هذا وغيره من هدي النبي عليه الصلاة والسلام في أسلوب دعوته، فقد كان حكيماً وأمر الدعاة بالحكمة وقد يغلظ النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحيان على بعض المخطئين إذا كان ذلك هو المناسب وهو مقتضى الحكمة .. «وفرق بين الغلظة التي أعنيها والتشنج المحدث وعبارات الاستخفاف والاستهتار بالمدعو التي هي من مظاهر هذه “النابتة”!!» لكن لم يكن ذلك هو السمة الغالبة في الخطاب العام الذي يوجه للمدعوين؛ فإنه لا يخفى أسلوبه عليه الصلاة والسلام في الخطاب الذي يوجهه للمدعوين عموما.. وقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بأن يقولوا للناس حسنى..«وقولوا للناس حسنى». إن المظاهر القبيحة التي أحدثها البعض في مجتمعنا في الفترة الأخيرة في الخطاب الدعوي الذي يوجه للعامة من خلال بعض الخطب والمحاضرات وبعض حلقات الأسواق “وحلقات الأسواق في مدن بلادنا المختلفة قد نفع الله بها كثيراً في ما مضى وفي ما سيأتي إن شاء الله خلال عقود مع الزمان ولم تكن تعرف بمظاهر «التوتر» و«التشنج» المحدثة حديثاً وإنما ببيان الحق بأدلته والتحذير من الباطل بأنواعه المختلفة “- إن المظاهر القبيحة لهذه «النابتة» تظهر في أقوال وأفعال متكررة أضرب أمثلة مما وصلني منها كقول بعضهم وهو يكرر أثناء حديثه في حديثه العام: > فهمت ولا ما فهمت؟ «بأسلوب فيه استخفاف بالمخاطب» > فاهم كلامي ده؟.. عشان ما تجي تقول لي كده ولا كده. > ما تكون زول بليد ولا ما بتفهم..؟ وتجد تكرار هذه العبارات في الكلمة الواحدة مرات عديدة. > إنت مجنون ولا شنو؟ ما عندك مخ؟! نرد عليك وعلى «العيّنَك». > يا زول أمشي.. وأوعا تجي تقول كده وكده.. > تعال هنا عشان «نجغمك» و«ندرشك».. وفي الإخبار: «جغمناهو» و«درشناهو». هذه الظاهرة التي يغلب عليها «التوتر» و«التشنج» والانفعال غير المنضبط وما يصحبها من العبارات التي أصبحت سمة حاضرة لهذا النوع من الناس في الخطاب الدعوي في المحاضرات والكلمات العامة هي من «المحدثات» في دين الإسلام.. ولم يُعْرَف عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته ولا عن علماء الإسلام هذا السلوك في أسلوب الدعوة باعتباره شأناً حاضراً غالباً في الخطاب. إن نقل بعض أساليب «أركان النقاش» التي تقام في بعض الجامعات إلى ساحات أخرى لدعوة عامة المسلمين في المساجد والأسواق وغيرها وجعلها هي الأسلوب الحاضر في دعوة عامة الناس هو «منكر عظيم» و«بدعة محدثة».. ومفاسده السيئة في مخالفة الهدي النبوي بل تبديله له أمر في غاية الوضوح ، مع ما يحدثه في صد الناس عن الحق لا يخفى على ذي بصيرة .. لذا وجب البراءة من هذه الظاهرة التي تزداد بالتقليد الأعمى شكلاً ومضموناً.. وتعين التحذير منها.. إن تصدّر بعض من لم يتأهل بالعلم جريمة كبرى، وإن من أسباب هذه الظاهرة وتزايدها تصدّر بعض من لم يعرفوا بالعلم والدعوة، ومن لم يتلقوا العلم عن أهله، ولم يجلسوا إلى العلماء ومن لم يشهد لهم بالتأهل الذي يكون قبل التصدّر.. وأختم هذا المقال بهذين الأثرين عن هذين العالمين الجليلين: جاء في مقدمة الإمام مسلم ـ رحمه الله تعالى ـ لصحيحه عن التابعي الجليل محمد بن سيرين ـ رحمه الله تعالى ـ أنه قال: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ». وثبت هذا الكلام عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، ذكره القاضي عياض في «ترتيب المدارك». قال الإمام مالك رحمه الله كما في «ترتيب المدارك»: «ورأيت أهل زماننا هذا يشتهون الكلام في الفتيا، ولو وقفوا على ما يصيرون إليه غداً لقللوا من هذا، وإن عمر بن الخطاب وعلياً وعلقمة وخيار الصحابة، كانت ترد عليهم المسائل، وهم خير القرون، الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يجمعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويسألون حينئذٍ ثم يفتون فيها، وأهل زماننا هذا قد صار فخرهم الفتيا، فبقدر ذلك يفتح من العلم…».