عالمية

لهذه الأسباب فشلت محادثات جنيف


فيما تتواصل محادثات جنيف اليوم وحتى الأربعاء في غياب أقطاب الهيئة العليا للمفاوضات، وهو وفد المعارضة الرئيسي، يقول دبلوماسيون إن إبقاء الهيئة على وفد مصغر يُجري أعضاؤه محادثات تقنية فقط مع مساعدي ستيفان دي مستورا مؤشر على تصاعد ضغط الفصائل المقاتلة للمعارضة المعتدلة على الوفد المفاوض. كما يشير هؤلاء الدبلوماسيون إلى أن الإبقاء على وفد رمزي للهيئة العليا ومغادرة رئيس الوفد المفاوض العميد أسعد الزعبي جنيف منذ الخميس، وقبله المنسق العام للهيئة رياض حجاب والذي غادر يوم الأربعاء، يعكس رغبة الوفد الرئيسي للمعارضة السورية في امتصاص نقمة جمهور معارض لم يعد يتقبل الاستمرار في محادثات “لم تنجح في إدخال علبة حليب واحدة إلى داريا”.

وكشف أعضاء في الهيئة العليا لـ”العربية.نت”، أن اجتماعاتها الداخلية المطولة في جنيف قبل مغادرة معظم أعضائها، عكست انقساماً حاداً في الرأي بين فريقين: الأول كان يدعو إلى مغادرة جنيف “للضغط على حلفاء المعارضة الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة كي تضغط على روسيا بهدف دفع النظام إلى فك الحصارات وتسريع إيصال المساعدات ووقف عمليات القصف واحترام الهدنة”، بينما كان الفريق الآخر داخل الهيئة يحذر من “إعطاء الروس والنظام عبر الانسحاب من جنيف ذريعة لاتهام المعارضة بإفشال المحادثات”. إلا أن اتساع نطاق الخروقات للهدنة عزز توجهات الفريق الأول الداعي إلى الانسحاب، وهنا ولدت فكرة تسوية تقضي بطلب تأجيل المفاوضات وتعليق المشاركة الرسمية فيها دون الانسحاب، مع الإبقاء في جنيف على مفاوضين “تقنيين” يجرون محادثات مع مساعدي دي ميستورا في مقر إقامتهم وليس في مقر الأمم المتحدة كما جرت العادة، لنزع الطابع الرسمي عن الاجتماعات.
أسباب فشل الجولة الحالية

وتقول مصادر متطابقة واكبت محادثات جنيف في كل مراحلها وشاركت في الاجتماعات الدولية حول سوريا، إن من بين أسباب تعثر هذه الجولة من المحادثات وصولاً إلى فشلها هو أن مستوى التنسيق والتشاور الأميركي-الروسي كان خلال هذه الجولة أدنى بكثير من الجولتين السابقتين وهو يبتعد كثيراً عن روحية التعاون بينهما خلال ما سُمّيَ بـ”عملية فيينا” وعشية “إعلان ميونيخ”.

وفي سياق متصل بالفتور بين واشنطن وموسكو وعلى خلفية تفاوت مواقفهما بشأن ملفاتٍ دولية، قالت مصادر متابِعة إنه كلما توترت علاقاتُهما حول ملف ما انعكس ذلك سلباً على الملف السوري، وفي هذا المجال فإن الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس الأميركي بنظيره الروسي قبل أيام لمناقشة ملفات عديدة، من بينها الملف السوري لا يعني أن التباين حوله قد تبدد بمجرد حصول الاتصال.

ومما يعزز هذا الاعتقاد أن مصدراً دبلوماسياً أميركياً قال لـ”العربية.نت” إن المشاورات مع الروس حول سوريا “تنحصر ضمن آليتين فقط هما الـ”تاسك فورس” المكلفة بالمساعدات الإنسانية ومثيلتِها المكلفة بمراقبة وقف إطلاق النار، في ماعدا ذلك لا توجد اتصالات مع الروس لمناقشة موضوعات أخرى بشأن سوريا”.

هذا الكلام الأميركي لم يقنع أحداً في الهيئة العليا للمفاوضات، وقد أكد بعضهم صحة المعلومات التي تشير إلى أن لدى الروس مسودة دستور سوري جديد وضعه بالتعاون معهم خبراء قانون سوريون. وفي حين تقول مصادر مطلعة على هذا الملف إن موسكو أَطْلعَتْ واشنطن على المسودة فقد نفى ذلك دبلوماسي أميركي “العربية.نت”.

فيما علّق دبلوماسيون أن التفاوض لم يعد تفاوضاً، بل أصبح مجرد محادثات افتقرت إلى زخم الجولة السابقة، إذ يركز كل طرف سوري على قرار دولي معين وتدعمه في ذلك جهات إقليمية ودولية.

وفد المعارضة الرئيسي مثلاً، وتدعمه بشكل خاص السعودية وتركيا وفرنسا، يتمسك بالتطبيق الحرفي لبيان جنيف 1 الصادر عام 2012، والذي عززه قرار مجلس الأمن 2118 الصادر عام 2013، وينص البيان على تشكيل هيئة حكم انتقالي تتولى كامل الصلاحيات التنفيذية التي يمارسها حالياً رئيس النظام بشار الأسد بما فيها السيطرة على الجيش والشرطة وأجهزة الاستخبارات، حيث كان التفسير الروسي لبيان جنيف 1 مختلفا عن تفسيرات عدة دول عربية غربية، إذ تعتبر موسكو أنه تحدث عن آلية حكم وليس عن هيئة حكم، ثم إنه لا يُفهم من نص البيان، برأي الروس، أن على الأسد أن يرحل عن السلطة عند بدء المرحلة الانتقالية، ولا أن عليه التنازل عن صلاحياته لهيئة حكم انتقالي.

أما المرجعية الأخرى لمحادثات جنيف، فكمنت بالقرار الدولي 2254، والذي كان ثمرة تفاهم أميركي- روسي أرسى دعائم “عملية فيينا” عبر مفاوضات حول سوريا في العاصمة النمساوية، وشاركت فيها عدة دول في أكتوبر ونوفمبر قبل تبني القرار في ديسمبر من العام الماضي.

ولم ترفض حينها المعارضة السورية (الرئيسية) القرار، بل وافقت عليه على مضض، لكنها تقول همساً إن أسوأ ما فيه أنه جاء في “لحظة تراجع أميركية أمام الروس”، وقد انعكس هذا التراجع تغييباً لأي إشارة عن هيئة الحكم الانتقالي في نص القرار 2254 الذي يكتفي بالإشارة إلى تشكيل “حكم تمثيلي شامل غير طائفي وذي مصداقية”.

وسألت “العربية.نت” المبعوث الأممي دي مستورا عن رأيه في تحفظ المعارضة على تغييب الإشارة عن هيئة الحكم في القرار المذكور، وقال حينها إن “الهيئة ليست مذكورة، لكن بيان جنيف 1 الذي ينص على تشكيلها مذكور بوضوح”.

أما المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات رياض حجاب فقد أكد لنا في مؤتمر صحافي الأربعاء الماضي قبل أن يغادر جنيف، أن القرار 2254 قرار “تراجعي وغامض”.
موقف أميركا

فيما تسعى الولايات المتحدة في جنيف إلى طمأنة الهيئة العليا، حيث يؤكد دبلوماسيوها للمعارضين السوريين أن تشكيل هيئة انتقالية سيبقى من أولويات محادثات جنيف، وصرّح دبلوماسي أميركي بارز: “نحن ما زلنا ملتزمين بدعم تشكيلها حتى لو استخدمنا تعابير أخرى في الإشارة إليها”.

أما المرجعية الثالثة لمحادثات جنيف فهي قرار مجلس الأمن 2268 الذي صدر بعد استعانة دي مستورا بالولايات المتحدة وروسيا إثر فشل جولة المحادثات الأولى في جنيف مطلع فبراير. وترأس حينها البلدان اجتماعاً لمجموعة الدعم الدولية لسوريا في ميونيخ بالشهر نفسه، فكان “إعلان ميونيخ” الذي عززه صدور القرار 2268 في 26 فبراير والذي نص على وقف الأعمال العدائية ما يعني وقف إطلاق النار، ودخل القرار حيز التنفيذ في اليوم التالي، مستثنياً من وقف العمليات القتالية تنظيمي داعش والنصرة كونهما مُدرجَيْن على لوائح مجلس الأمن للمنظمات الإرهابية، وبعد صدور القرار انعقدت جولة جنيف الثانية بزخم كبير في مارس الماضي.

وتقدم حكومة النظام السوري تفسيراً خاصاً بها للقرار 2254، حيث إن تشكيل حكم تمثيلي وشامل وغير طائفي يعني بالنسبة لها حكومة وحدة وطنية موسعة تضم موالين للنظام ومعارضين له ومستقلين. ويحدد بشار الجعفري رئيس وفد النظام إلى محادثات جنيف مواصفات المعارضين المقبولين من الحكومة وقد قدم لائحة بأسمائهم إلى دي ميستورا، فهؤلاء يجب أن يكونوا، كما قال الجعفري، “معارضين وطنيين نابذين للإرهاب”. وإذا كان الجعفري نفسه قد وصف أعضاء الهيئة العليا بأنهم “مزيج من المتطرفين والإرهابيين والمرتزقة”، فهذا يعني، برأي دبلوماسيين، أن النظام لن يقبل بهم في أي حكومة.

بالمقابل، يرى الوفد الرئيسي للمعارضة أن اقتراح تشكيل حكومة وحدة وطنية يتناقض مع نص القرارات الدولية، ويصر الوفد على الحصول على موافقة مكتوبة من النظام على الانتقال السياسي “والأداة الوحيدة له هي هيئة الحكم الانتقالي”.

وفيما يتوقع عقد لقاء جديد اليوم بين دي ميستورا ووفد النظام السوري، تؤكد الهيئة العليا للمفاوضات أنها لن تتراجع عن تعليق مشاركتها الرسمية في المحادثات قبل أن يلتزم النظام بالتطبيق الكامل للبندين 12 و13 من القرار 2254، اللذين ينصان على وقف القصف على التجمعات المدنية وفك الحصارات وإيصال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة وإطلاق معتقلين بدءاً من النساء والأطفال.

بدوره، سلم وفد النظام دي ميستورا لائحة بأسماء من يقول إنهم آلاف المختطفين من قِبل جيش الإسلام وفصائل معارضة أخرى، فيما تُقدر المعارضة عدد المعتقلين لدى النظام بمئتين وخمسة عشر ألفاً، إلا أن مصادر الأمم المتحدة تقول إن عددهم يتراوح بين الستين والسبعين ألفاً.

إزاء هذا التباعد الكبير بين موقفَيْ وفدَيْ النظام والمعارضة حول كل الملفات تقريباً، نقل عن المبعوث الأممي قولُه حرفياً لدبلوماسيين: “أطلب منكم الدعاء لي بالنجاح، فالفجوة كبيرة ويصعب ردمها”.

العريية نت