مقالات متنوعة

د. عارف عوض الركابي : وقفات مع المحتفلين بليلة السابع والعشرين من شهر رجب


يحتفل بعض الناس في كل عام بليلة السابع والعشرين من شهر رجب وهو ما عُرِف بذكرى الإسراء والمعراج، وتتنوع مظاهر هذه الاحتفالات، وتنشد القصائد والمدائح من قبل بعض أصحاب الطرق الصوفية في هذه الليلة بغرض الاحتفال بذكرى إسراء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام من البيت الحرام إلى بيت المقدس ومعراجه من بيت المقدس إلى السماء ، ويجعل بعض الناس موعد مناسباتهم في هذه الليلة!! ومن باب قوله عليه الصلاة والسلام : «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» رواه البخاري. ونظراً لقرب هذه الليلة فإن لي مع هذا الاحتفال بعض الوقفات التي أضعها بين يدي إخوتي وأخواتي القراء، سائلاً الله تعالى أن ينفع بها وأن يقفوا ويتأملوا معي «بتجرد» هذه الوقفات: الوقفة الأولى: إن من المعلوم أن من يحتفل بذكرى الإسراء والمعراج يدفعه إلى ذلك محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، ورغبته في إظهار هذه المحبة، ولا يخفى أن محبته عليه الصلاة والسلام من الواجبات العظيمة في الدين، ولما كانت محبته تستلزم اتباعه وطاعته والتأسي به، كان لزاماً على كل من يحتفل بليلة الإسراء والمعراج أن يتأكد ويتحرى من أن هذا الاحتفال بهذه الليلة لا يوقعه في مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي لا يناقض محبته التي يرجوها. وهذا الأمر ـ المهم جداً ـ يتطلب التجرد التام والبحث برغبة صادقة للوصول إلى النتيجة التي يتحقق بها موافقة الشرع والحصول على الأجر والثواب. الوقفة الثانية: من المؤكد جداً، والذي لا يختلف فيه اثنان أن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة رضوان الله عليهم وفي عهد التابعين لم يوجد أحد لا من العلماء ولا من الحكام ولا حتى من عامة الناس!! قال بمشروعية الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج كما لا يوجد من أمر بذلك أو حث عليه أو تكلم به. وبالتالي فهو أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام، وهنا موضع تساؤل مهم!! لماذا لم يفعله الصحابة الكرام ولماذا لم يأمروا به؟! إذا كان هذاالاحتفال يعبّر عن محبة للنبي المصطفى عليه الصلاة والسلام فلماذا لم يأمر به عليه الصلاة والسلام؟! وقد قال: «والذي نفسي بيده، لا يُؤمِنُ أحَدُكُم حتَّى أكونَ أحبَّ إليه من وَلَدِهِ ووَالِدِهِ ».أخرجه البخاري ومسلم. وإذا كان هذا الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج مما يُتقرب به إلى الله تعالى فلماذا لم يفعله الصحابة الكرام؟! وهم أكثر وأشد الأمة محبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ضربوا الأمثلة العظيمة والرائعة في إثبات محبتهم للنبي أشد من محبة النفس والولد والوالد. الإجابة التي لا ينبغي أن يختلف عليها اثنان: أن يقال «لو كان خيراً لسبقونا إليه». قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ : «وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها». هؤلاء السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم لا يمكننا أن نتصور أنهم جهلوا خيراً يُقربهم إلى الله زلفى وعرفناه نحن!! وإذا قلنا إنهم عرفوا كما عرفنا؛ فإننا لا نستطيع أن نتصور أبداً أنهم أهملوا هذا الخير. الوقفة الثالثة: هناك آيات وأحاديث كثيرة تبين أن الإسلام قد كَمُلَ، وهذه حقيقة يعرفها العالم والجاهل والأمي وغيرهم ، وقد قال الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً». وقد سبق بيان أن هذا الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج وما يقال في «إحياء الذكرى» لم يكن في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم – وعلى هذا فنقول: إن هذا الاحتفال بهذه الليلة إن كان خيراً فهو من الإسلام، وإن لم يكن خيراً فليس من الإسلام؟ ويوم أُنزلت هذه الآية: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» لم يكن هناك احتفال بليلة الإسراء والمعراج؛ فهل يكون ديناً يا ترى؟! فالاحتفال بليلة السابع والعشرين من رجب إذا كان من الخير فهو من الإسلام، وإذا لم يكن من الخير فليس من الإسلام، وإذا اتفقنا أن هذا الاحتفال لم يكن حين أُنزلت الآية السابقة؛ فبديهي جداً أنه ليس من الإسلام. ومما يؤكد هذا المعنى قول إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الذي أورده الشاطبي في كتابه الاعتصام: “من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة”، ثم قال: “اقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً» ، فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً”. انتهى كلامه. متى قال الإمام مالك هذا الكلام؟! في القرن الثاني من الهجرة، أحد القرون المشهود لها بالخيرية! فما بالنا بالقرن الخامس عشر؟! ولنتأمل ـ مرة أخرى ـ قوله : “فما لم يكن يومئذٍ ديناً؛ فلا يكون اليوم ديناً”.واليوم الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج «دين» عند كثير من الناس، ولا نحتاج إلى إثبات ذلك بالأدلة، فهي من أوضح الواضحات. فكيف يكون هذا من الدين ولم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في عهد الصحابة ولا في عهد التابعين ولا في عهد أتباع التابعين؟! الوقفة الرابعة: إذا كان الاحتفال بالإسراء والمعراج في ليلة السابع والعشرين من رجب بهذا الشأن فإنه يدخل ضمن البدع التي نهى عنها الشرع، قال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ : «فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقاد أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة». والوقوع في البدع من الخطورة بمكان، قال الله تعالى: «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا». وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وكل بدعة ضلالة» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وغيرهم، وقال عليه الصلاة والسلام: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم قال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». هذه النصوص وغيرها مما تدفع المسلم لأن ينتبه لأمره، ويخاف من الوقوع في مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يحرص على التزام سنته ولا يعارضها بتقليد أو هوى أو تعصب لرأي أو طريقة أو غير ذلك، فإن الله تعالى قد حذرنا جميعاً من مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». الوقفة الخامسة: إن من يحيون هذه الليلة بالمدائح والقصائد ويخصّونها ببعض الأعمال والأقوال يقعون فيما نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته صراحة عنه ، فقد قال – صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله» رواه البخاري، وفي رواية للإمام أحمد في المسند: «ولا ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله» ، فقد نهى عن تجاوز الحد في إطرائه ومدحه، وبين أن هذا مما وقع فيه النصارى وكان سبب انحرافهم. الوقفة السادسة: إن مما يجهله كثيرون ممن يحتفلون بليلة الإسراء والمعراج أن الإسراء والمعراج لم يثبت بخبر صحيح أنه كان في هذه الليلة وقد اختلف اختلافاً كثيراً في تحديد السنة وتحديد الشهر وتحديد اليوم إلى أقوال تزيد عن الأربعة عشر قولاً!! وهذا يبيّن أن السلف لم يحتفلوا بها إذ لو احتفلوا لضبط ذلك بذلك لضبط اليوم والشهر، وعليه فإن من يحتفلون بهذه الليلة خفي عليهم هذا الاختلاف الذي بينه العلماء ولضيق المقام أضرب أمثلة بما يلي: قال ابن العطّار الشافعي: «رجب ليس فيه شيء من ذلك – أي الفضائل – ، سوى ما يشارك غيره من الشهور، وكونه من الحُرُم، وقد ذكر بعضهم أن المعراج والإسراء كان فيه، ولـم يثبـت ذلك». وقال الإمام ابن رجب: «أما الإسراء، فقيل: كان في رجب، وضعّفه غير واحد، وقيل: كان في ربيع الأول، وهو قول إبراهيم الحربي، وغيره». وقال أبو أمامة ابن النقاش: «أما ليلة الإسراء، فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف، ولذلك لم يعينها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، ولا عينها أحد من الصحابة بإسناد صحيح، ولا صح إلى الآن، ولا إلى أن تقوم الساعة فيها شيء، ومن قال فيها شيئاً، فإنما قال من كيسه لمرجع ظهر له استأنس به ، ولهذا تصادمت الأقوال فيها وتباينت ، ولم يثبت الأمر فيها على شيء» ا.هـ . وقال العلامة الألباني مبيناً الخلاف في تعيين الليلة : «بلغت خمسة أقوال! وليس فيها قول مسند إلى خبر صحابي يطمئن له البال…. وفي ذلك ما يُشعر اللبيب أن السلف ما كانوا يحتفلون بهذه الليلة، ولا كانوا يتخذونها عيداً، لا في رجب ولا في غيره، ولو أنهم احتفلوا بها، كما يفعل الخلف اليوم، لتواتر ذلك عنهم ، ولتعيّنت الليلة عند الخلف، ولم يختلفوا هذا الاختلاف العجيب!».. وكلام أهل العلم في هذا كثير جداً، والمقصود التمثيل لما بينوه في ذلك. هذه الوقفات الموجزات وغيرها مما يبين بجلاء ووضوح أن هذا الاحتفال – بليلة الإسراء والمعراج وما يقال من إحياء ذكراها – من البدع المحرمة التي يجب على الناس أن يبتعدوا عنها، وعليهم أن يجتهدوا في الأعمال الصالحة التي ثبتت بأدلة الكتاب والسنة، وليسعنا ما وسع الأوائل، فإنهم على علمٍ وقفوا وببصر نافذ كفّوا، والله الموفق.


تعليق واحد

  1. كفيت ووفيت يا شيخ د. عارف فجزاك الله خير الجزاء، وبارك الله فيك ونفع بك وبعلمك الامة وجعل عملك هذا فى ميزان حسناتك يوم القيامة.