رأي ومقالاتمقالات متنوعة

د. مصطفى عثمان إسماعيل : مشاهد ومواقف (4) .. دكتور الترابي الذي عرفته


الترابي رجل الشورى

الشورى هي مصطلح إسلامي استمده بعض فقهاء وعلماء المسلمين من بعض آيات القرآن مثل “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ” سورة الشورى – آية 38 للدلالة على ما اعتبروه مبدأً شرعياً من مبادئ الإسلام المتعلق بتقليب الآراء، ووجهات النظر في قضية من القضايا، أو موضوع من الموضوعات، واختبارها من أصحاب الرأي والخبرة، وصولاً إلى الصواب، وأفضل الآراء، من أجل تحقيق أحسن النتائج. وتذكر كتب الحديث والتاريخ الإسلامي مواقف اعتبروها تجسداً لمبدأ الشورى منها استشارة محمد نبي الإسلام لأصحابه رغم أنه معصوم. ولا يمكن بأي حال أن نتطرق إلى المؤسسة السياسية الإسلامية دون الحديث عن واحدة من أهم مميزات هذه المؤسسة؛ فالإسلام جاء بمبدأ إنساني غاية في العظمة والروعة، وهو مبدأ الشورى، بل سُميت سورة من سور القرآن الكريم باسم “سورة الشورى”؛ دلالة على أهمية تحقق هذا الشرط في أي شأن من شؤون المسلمين، وعلى الرغم من اختلاف الفقهاء حول آليات تنفيذ هذا المبدأ من ناحية الاختيار أو الوجوب والإلزام، لكنهم مُجْمِعُون على ضرورة تَحَقُّقها بين المسلمين مصداقاً لقوله تعالى: “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ”.
تُعرَّف الشورى بأنها طلب الرأي ممن هو أهل له، أو هي استطلاع رأي الأمة أو من ينوب عنها في الأمور العامة المتعلقة بها، وعليه فقد اتخذ المسلمون الشورى أصلاً وقاعدة من أصول الحكم وقواعده، وعليها قام ترشيح العدول من المسلمين لمن يرونه أهلاً للقوَّة والإمامة لتولِّي أمرهم؛ ومما يؤكِّد ذلك ويؤصِّله أن الرسول لم يترك نصاً مكتوباً ولم يستخلف أحداً ليتولَّى إمامة المسلمين، وإنما ترك الأمر شورى بينهم، وقد روى أبو وائل قال: قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا تستخلف علينا؟ قال: “ما استخلف رسول الله فاستخلف، ولكن إن يُرِدِ اللهُ بالناس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم”.
تعتبر الشورى أصلاً من الأصول الأولى للنظام السياسي الإسلامي، بل امتدَّت لتشمل كل أمور المسلمين؛ وتأسيساً على ذلك فإن الدولة الإسلامية تكون قد سبقت النظم الديمقراطية الحديثة في ضرورة موافقة الجماعة على اختيار مَنْ يقوم بولاية أمورها ورعاية مصالحها وتدبير شؤونها؛ ممَّا يؤكِّد قيمة وفاعلية الإجماع عند المسلمين.
نظام الشورى الإسلامي، مفخرة الإسلام وواحد من أعظم إسهامات الديانة الإسلامية في رقي الحضارة الإنسانية. ظهور هذا النظام في حقبة زمنية طغى فيها طابع السلطوية والديكتاتورية على أنظمة الحكم في العالم، سواء في بلاد الفرس أو الروم أو المغرب والهند والصين وبقية أرجاء المعمورة، دليل على عظمة ما جاء به الإسلام وعلى تفوق الحضارة الإسلامية في مجال من أهم مجالات الحياة البشرية.
هذا النظام – أي نظام الشورى – استطاع أن يكسر النظم السلطوية والديكتاتورية التي لا تعرف لاحترام الإرادة الشعبية معنى، ورد للشعب اعتباره ومنحه حريته وحقوقه التي سلبت منه في عهد الجاهلية وزمن أنظمة الحكم الاستبدادية. النظام هذا ساوى ما بين المواطنين ولم يفرق بين القيادة والبقية. الكل فيه أصبحوا سواسية. المواطن العادي لا يحس بنقص اتجاه القادة، وهؤلاء يعاملون البقية معاملة الند للند وليس معاملة السيد للعبد.
لكن، ومع كامل الأسف، هذا التحرر وهذه المساواة لم يدوما طويلاً! فسرعان ما انقلب أمراء المؤمنين وفقهاء الأمة على المفهوم الحقيقي للشورى، حرفوه وابتدعوا مفاهيم جديدة تقصي المواطنين وتجعل الشورى حكراً على ما أسموه بأهل الحل والعقد.
وقد قال “الترابي” عن الرفض الذي جوبهت به الشورى من القوى السياسية المعاصرة في العالم الإسلامي خاصة المفتونة بالمدرسة الغربية والعلمانية الحديثة والمهوسين بالديمقراطية بنسختها الغربية، قال: أصبحت كلمة الشورى كأنها ندب أخلاقي في قرارات السلطان أو في علاقات المجتمع. ولكن هي بالحق: منهج ينتهي بعد تداول الرأي إلى القرار (بالإجماع)، وهو مصدر وأصل لتكاليف الأحكام في الدين بعد الكتاب والسنة، من حيث تستوحي (الشورى) استنباط الآراء.. ) المصدر: حسن الترابي، المصطلحات السياسية في الإسلام.
وقد عرف الشورى في كتابه الشورى والديمقراطية: إشكالات المصطلح والمفهوم: إن الشورى في الإسلام حكم يصدر عن أصول الدين وقواعده الكلية قبل أن تقرره الأدلة الفرعية من نصوص الشرع، فمن عقيدة التوحيد إسلام الربوبية والحكم والسلطة لله، وإنكار كل سلطة إلا بمقتضى الخلافة والعطاء من الله والإيمان بأن البشر سواسية في العبودية لله، وبذلك يتحقق التحرر السياسي الذي يلزمه نظام الشورى أو الديمقراطية، إذ يصبح الناس قاطبة هم المستخلفون على سلطة الأرض ولكل منهم نصيبه المستحق من السلطة – كل ذلك موقف تلقائي بعد أن يؤمن الناس بالله ويتحرروا من التعبد وإسناد السلطة المطلقة للملك أو الوالي أو القوة السياسية المتمكنة واقعياً. وتنبثق الشورى تلقائياً من معاني استواء عباد الله في فضله الذي آتاهم. وضرورة تعاونهم على العبادة ليرتقي كل فرد منها فيشتركون في المجهود اللازم فيها ويشتركون في كسب الأجر الحاصل عنها.
“الترابي” كان يحرض على الشورى وعلى الالتزام بها وتنفيذها حتى ولو لم تجرِ على الرأي الذي يراه، وكان مستمعاً جيداً لآراء الآخرين خاصة قبل اعتداء كندا. عندما كنا طلاباً في الجامعة كنا نصفه بالمستمع الجيد. لعلي أروي واقعة هنا تؤكد ما ذهبت إليه وقد يختلف معي البعض، عندما قرر الأخوة في القيادة أن يتولى دكتور “الترابي” رئاسة البرلمان بعد قيام ثورة الإنقاذ الوطني لم أكن وقتها ضمن طاقم القيادة. واعترضت على هذا الاتجاه وأظهرت اعتراضي على ذلك. اتصل بي سكرتير “د. الترابي” وأبلغني بأنه يريدني أن أتناول معه طعام الغداء بمنزله. ذهبت لمنزله ووجدته وحده وبعد تناول الغداء بادرني قائلاً: ( نما إليّ أنك معترض على قرار أخوانك بذهابي رئيساً للبرلمان فهل هذا صحيح ولماذا؟)، أجبته بنعم وأسهبت في شرح الأسباب وملخصها أنك تتولى مسؤولية التنظيم السياسي وأنت في موقع يمكنك من الفصل في النزاعات التي تحدث بين الأجهزة التشريعية والتنفيذية، فإذا أصبحت رئيساً للبرلمان تصبح أنت الخصم والحكم وهذا غير منطقي، كما أن لديك مكانة داخلياً وخارجياً وهذا يقتضي بعدك عن البرلمان الذي فيه الكثير من التجريح الشخصي والسباب والشتائم التي تخرج الإنسان من وقاره. استمع إليّ جيداً ثم ودعته وانصرفت. في المساء كان هنالك اجتماع للمكتب القيادي أو التنفيذي وكان يعقد أحياناً في مقر المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي ولم أكن عضواً فيه، اتصل بي مدير مكتب دكتور “الترابي” قائلاً مطلوب حضورك. عند حضوري والاجتماع منعقد أبلغ الدكتور “الترابي” وطلب مني الدخول فدخلت وجلست، فقال الدكتور “الترابي” للحضور أخوكم الدكتور “مصطفى عثمان إسماعيل” لديه رأي مخالف لما ذهبتم إليه وأريدكم أن تسمعوه. طلبت منه أن يعفيني لكنه أصر، شرحت كل حججي ومبرراتي التي ترفض ذهابه رئيساً للبرلمان، وبدأ الرد عليّ بغلظة من البعض فاستأذنت وخرجت، وأتخذ القرار وذهب “الترابي” رئيساً للبرلمان وبدأت المشاكل وانتهت بحل البرلمان. ما يهمني هنا هو الشورى التي تمت وعرض الرأي الآخر وإن لم يؤخذ به.
يقول البعض إن “الترابي” بعد قيام الإنقاذ مباشرة قام بحل الحركة الإسلامية دون استشارة الآخرين وهذا غير صحيح، فقد حضرت وشاركت في اجتماع مجلس الشورى الذي عقد بمنزل الراحل الدكتور “عبد الله سليمان العوض” بالخرطوم بحري، ومن الذين شاركوا وتشاجروا في ذلك الاجتماع الأستاذ “أحمد عبد الرحمن محمد” والدكتور “يسن عابدين”، في ذلك الاجتماع تقرر حل الحركة الإسلامية بعد نقاش استمر إلى ما بعد منتصف الليل. قد يقول قائل إن “الترابي” هو الذي قاد الناس لاتخاذ هذا الموقف، لكني أقول إنه لم يفرضه عليهم كما يشاع.
*وزير الخارجية السابق – أستاذ العلوم السياسية بجامعة أفريقيا العالمية